تناول الدكتور منير القادري دور التربية الروحية في تحقيق التكامل و التوازن بين متطلبات الروح وحاجات الجسد، مبينا أن المجتمعات المعاصرة في حاجة الى القيم الأخلاقية التي تعيد إليها توازنها الروحي، وتحقق لها استقرارها النفسي، كما تطرق في ذات السياق الى أهمية الاستثمار في العامل البشري و الرأسمال اللامادي الوطني .
جاء ذلك خلال مداخلته مساء السبت الثامن والعشرين من الشهر الجاري، في الليلة الرقمية الثامنة والستين ضمن فعاليات ليالي الوصال الرقمية التي تنظمها مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بتعاون مع مؤسسة الجمال.
أشار في بدايتها الى أن التوازن سنة مِن سُنن الحياة، وَسِرٌ من أسرار البقاء، وأنه سيبقى سببًا لاستمرارية الحياة وبقائها على وجه المعمورة إلى أن يشاء الله تعالى، مستشهدا بعدد من الآيات القرآنية.
وتابع أن ” الإنسان مطالب بتحقيق التوازن والاعتدال في حياته اليومية: بين العبادات والمباحات… بين قول: “نعم”، و”لا”…بين العمل الدنيوي والحرص على الآخرة …”
وأوضح أن التوازن في الإسلام أصل أصيل في منهج التربية الإسلامية الراشدة، وأن النظرة الشرعية للإفراط تماثل النظرة للتفريط، وأن نزوح الإنسان بنفسه نحو أحدهما يُفقِده القدرة على تحقيق رسالته المنشودة في الحياة بأداء مهمّة الاستخلاف وعمارة الأرض.
وأضاف القادري أن من أروع الأمثلة العملية والتوجيهية في التوازن الروحي والمادي، ما ورد عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ، فلما أُخبِروا، كأنهم تَقَالُّوها (أي: عَدُّوها قليلة )! فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تأخَّرَ قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِر، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي » رواه البخاري ومسلم .
وزاد أن ثمة أوجه أخرى لفقدان جوهر وروح هذا الدين، إما بالإفراط في العبادات على حساب السعي و الكد في تحصيل أسباب العيش وإما بالاكتفاء بأداء الشروط الظاهرية للعبادة والتفريط في معانيها الروحية حتى صارت “أشباح بلا جوهر لا تنهى عن فحشاء ولا منكر”.
وشدد على أن التوازن في علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بالناس، وعلاقته بالمخلوقات حوله هو سبب سعادته في الدارين الدنيا والآخرة.
وفي ذات السياق أكد أنه من الإنصاف أن لا ننكر على الحضارة الغربية المعاصرة تقدمها المادي الذي يشمل جميع نواحي الرخاء في حياتنا المعاصرة، وأردف أن هذا التقدم كان على حساب الجانب المعنوي في الإنسان الذي أصبح يعيش حياة غير متوازنة طغت فيها المادية، وتحول الإنسان فيها إلى هيكل بلا روح مهزوز بلا استقرار نفسي أو عاطفي، محروم من المشاعر الروحية.
وأضاف أنه بسب ذلك أصبحت أحوال المجتمعات المعاصرة تلح في طلب القيم الأخلاقية التي تعيد إليها توازنها الروحي، وتحقق لها استقرارها النفسي، وأن هذه القيم الأخلاقية تتمثل في التصوف -مقام الإحسان ، مبرزا المهمة المنوطة به في إصلاح الناس والعبور بهم إلى الجانب الآخر من صحراء الدنيا ورعونة النفس إلى ظلال الروح وجنة القلب، وان هذا الإصلاح يتخذ من المحبة والرأفة أسلوبًا للإنقاذ والعلاج والهداية ، فتهب نسائم الإسلام الإلهية كنفحة صوفية تواسي الهلكى، وتحملهم بوداعة إلى سبيل النجاة والفلاح .
ولفت الى أن التغيرات العصرية العالمية التي يشهدها عالم اليوم تمثل فرصة سانحة للمربين و المهتمين بالشان التربوي والزوايا والطرق الصوفية والعلماء عموما كي يتقدموا من جديد إلى البشرية بمبادئ تربوية تتخد من سماحة الإسلام وأهدافه وسمو غاياته سبيل للمشاركة في صنع وبناء العلاقات الإنسانية الدولية الجديدة، ونشر مبادئ الحق والعدل والسلام والتعايش ونبذ الخلاف والفرقة والعنصرية والغلو والعنف والتطرف، وأنه بذلك يتسنى إعادة الروح لحياة شعوب الأمم المعاصرة و بعثها على طريق الحداثة والحضارة.
وتابع شارحا “حضارة تعيد للإنسانية توازنها في تلبية مطالب الجسد وتلبية مطالب الروح باعتدال وتوازن من دون إفراط أو تفريط، وانه لا معنى لأي تقدم مادي ما لم يسبقه ويقوده ويساوقه التقدم في المجال الروحي والأخلاقي”.
و أكد على أنه لا معنى لكلمة البشرية من دون الأخذ بالجوهر الحضاري للإنسانية المتمثلة في قيمها الأخلاقية والدينية الداعية إلى المساواة والحب والتراحم والتعاون بين البشر، وأنه لا تَحَضّر من دون قيم، ولا إنسانية من دون مراعاة حقوق الآخر والعمل على إسعاده معنوياً ومادياً، موردا مقولة لألبرت أشفيتسر في كتابه (فلسفة الحضارة) “إن الحضارة هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير على السواء”.
واختتم مداخلته بالتأكيد على أن الاستثمار في العامل البشري والرأسمال اللامادي الوطني “من أهم مقومات إنجاح الرهان التنموي بالمملكة المغربية، والذي يسعى من خلاله أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده إلى تشييد سبل الرخاء الاقتصادي لشعبه الوفي، وتحقيق نهضة شاملة وتطوير قدرات الأفراد و الجماعات، مع الاهتمام بتنمية الجانب الروحي للمجتمع”.
وأضاف أن التصوف بصفته ثابت من ثوابت هوية المغاربة الدينية والتاريخية الأصيلة، هو مقام التكامل الروحي والمادي المستمد من التربية الصوفية وخوض تجربة التزكية النفسية و الرقي الروحي و إصلاح القلب.
وزاد أنه “مقام تربية وتهذيب نفس الإنسان ليصير صالحاً لنفسه ولغيره، مصلحا وفاعلاً في مجتمعه واعيا بتحديات عصره، متشبعا بقيم المواطنة والوطنية الصادقة، أميناً مخلصا قادراً على المساهمة الإيجابية في تحقيق سبل التنمية الحضارية المستدامة و إنجاح المشروع التنموي الجديد تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله و أيده رغم انف الحاقدين و الحاسدين و أحب من أحب و كره من كره”.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.