لماذا يطلب البعض من المغرب دونا عن غيره أن يأخذ قراراً عاجلا بقطع العلاقات مع إسرائيل؟ هل دفاعا عن فلسطين وشعبها؟ أم خدمة لغرض آخر هو الالتفاف بأي طريقة كانت على الاختراقات والمكاسب الدبلوماسية المهمة التي حققها في حربه لاستعادة ما يراه أجزاء من أرضه؟
من حيث المبدأ لا جدال أبدا في مشروعية الطلب.. فما ظل يقوله المطبعون العرب على اختلاف دوافعهم وغاياتهم، من أن لا تعارض بين إقامة علاقات مع إسرائيل ودعم حق الفلسطينيين في التخلص من الاحتلال، ثبت الآن وأكثر من أي وقت مضى بطلانه، غير أنه ومن بين كل الدول العربية التي سارعت قبل شهور للتطبيع، فإن العدوان الإسرائيلي الأخير على حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى وغزة وباقي المدن الفلسطينية الأخرى، سلّط الضوء بشكل خاص على المغرب. والسبب هو أنه البلد المغاربي الوحيد الذي أعاد علاقاته بإسرائيل، وهو البلد الذي يرأس أيضا لجنة القدس، التي أنيط بها الدفاع عن الطابع العربي والإسلامي للبلدة المقدسة، ودعم بقاء الفلسطينيين فيها. ولأجل ذلك فإن كثيرين كانوا يترقبون ردة الفعل المغربية، والطريقة التي سيتصرف بها المغاربة مع الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من أسبوع.
وربما كان أكثر ما يتطلعون إليه هو أن يخرج الوزير الأول المغربي سعد الدين العثماني، الذي سبق له قبل شهور قليلة فقط، أن وقع على اتفاق إعادة العلاقات المغربية الإسرائيلية، ليعلن في خطاب حماسي مشحون، عن قطع تلك العلاقات، ردا على العدوان على الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكن ما الذي يتوقع أن يحصل حينها؟ الثابت هو أن قرارا بهذا الحجم كان سيقابل بترحاب حار وواسع، لا داخل المغرب فحسب، بل في كل الدول العربية والإسلامية بلا استثناء، وكان الفلسطينيون بالذات سينظرون إليه على أنه واحد من أهم الإنجازات التي حققها صمودهم طوال الأيام الماضية، بوجه آلة القمع والاحتلال، لكن هل كان المغرب سيطمئن حينها إلى أنه قد أدى واجبه نحو فلسطين كاملا، من دون أن يخاطر بخسارة جزء من النجاحات الدبلوماسية التي حققها في مسألة الصحراء؟ لا شك في أن الأهمية الرمزية لقرار من ذلك القبيل، كانت تستحق المجازفة والتضحية، غير أن السؤال الذي يطرح بقوة ثم ماذا بعد؟ وما الخطوة التالية؟ ولعل البعض قد يرد لنبدأ بالأولى، وستتبعها الثانية بالضرورة، ولكن هل تأخذ الدول قراراتها بشكل اعتباطي، ومن وحي اللحظة، ومن دون أي دراسة أو استشراف للتبعات؟ إن الربط يحصل هنا مع مسألة أخرى ظهرت فيها قدرة الدبلوماسية المغربية على تحقيق مكاسب لافتة ومهمة. فعندما تعلق الأمر بقضيته الوطنية الأولى، أي قضية الصحراء، لم يتردد المغرب في سحب سفيرته من برلين، وتصعيد لهجته مع مدريد، وكان ذلك نوعا من الإنذار غير المباشر إلى عدة قوى إقليمية ودولية، بأن غض الطرف عن بعض المواقف، أو التصريحات التي تراها الرباط مسيئة، أو مناهضة لمغربية الصحراء لم يعد مسموحا. ومع ذلك فإن ما ينبغي عدم إغفاله، هو أن تلك الخطوات لم تتم دفعة واحدة، بل جاءت بشكل تدريجي، لكن هل يصح بالقياس على ما حصل في تعامل المغرب مع الملف الصحراوي، أن نتوقع التحرك المغربي في الملف الفلسطيني؟
إن السؤال الذي يجول في خاطر الكثيرين هو، هل يمكن أن يتكرر الأمر نفسه ويبدأ العد التنازلي للعلاقات المغربية الإسرائيلية، التي أعلنت قبل خمسة شهور فقط عن استئنافها؟ وهل ستقدم الرباط في حال تصاعد الاعتداءات على قطع علاقاتها بتل أبيب، حتى لو لم ترسل إليها إلى الآن سفيرا مغربيا، أو تعتمد لديها سفيرا إسرائيليا؟ لا يبدو أن هناك إشارة واضحة على أن شيئا من ذلك قد يحصل في غضون الساعات، أو الأسابيع القليلة المقبلة، لكن كثيرين يرون في مغادرة رئيس المكتب الإسرائيلي في الرباط بشكل عاجل، مع بدء الاعتداءات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، بحجة عيادة والده المريض، مؤشرا إلى حرص الإسرائيليين على رفع الحرج، الذي قد يسببه بقاؤه في الرباط، ومحاولة لتجنب حصول ردة فعل قوية من جانبها، في حال ما إذا استمرت، أو تصاعدت حدة الانتهاكات في الأراضي المحتلة. ولا شك في أن تل أبيب فعلت ذلك لإدراكها أنه ليس من مصلحتها أن تختبر ردة الفعل الشعبية المغربية، فقد ظهر جليا أن أقوى المظاهرات المنددة بجرائم الاحتلال والمساندة لفلسطين، كانت تلك التي خرجت في مدن المغرب، كما أن التفاعل الرسمي وبالمقارنة مع باقي الدول العربية التي طبعت كان لافتا، فقد انتقل وبشكل تدريجي من إرسال مساعدات إنسانية عاجلة إلى الضفة والقطاع، إلى وصف رئيس الوزراء الأحد الماضي، في حديث لقناة «الجزيرة» القصف الإسرائيلي على غزة بأنه «عدوان ممنهج» و»جرائم حرب» ضد المدنيين. فضلا عن أن الاتصال الهاتفي الذي جرى الأربعاء الماضي بين سعد الدين العثماني ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، وأكد من خلاله المسؤول المغربي على «رفض المملكة المغربية القاطع لجميع إجراءات سلطة الاحتلال، التي تمس بالوضع القانوني للمسجد الأقصى والقدس الشريف، أو تمس الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني»، كان رسالة صريحة من جانب المغرب على أنه لن يتستر على الاعتداءات الإسرائيلية، أو يقف صامتا أمامها، مثلما فعل بعض الدول العربية، التي طبّعت في الشهور الأخيرة مع الاحتلال، لكن هل يمكن للمغرب الرسمي أن يمضي في دعمه للقضية الفلسطينية حدا أبعد من ذلك؟ وهل أن قطع العلاقات مع الإسرائيليين يمكن أن يكون مطروحا؟ من المهم أن نعرف انه في ديسمبر الماضي، عندما أعلنت الرباط عن استئناف علاقاتها بإسرائيل، بادر العاهل المغربي بالاتصال برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ليبلغه وفقا لبلاغ الديوان الملكي أن «المغرب يضع دائما القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية، وأن عمل المغرب من أجل ترسيخ مغربيتها، لن يكون أبدا، لا اليوم ولا في المستقبل، على حساب نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقوقه المشروعة». وكان ذلك التوضيح مهما في تحديد العلاقة بين القضيتين، وتوضيح مدى الارتباط الوثيق بينهما، ومثّل إشارة غير مباشرة إلى أن ظروف الحرب التي يخوضها المغرب لتأكيد مغربية الصحراء، هي التي دفعته للتطبيع. ومن هنا فإن أي تراجع عن ذلك المسار سيرتد تلقائيا على ملف الصحراء. وهذا ما يدركه المغاربة جيدا، وتعيه الأطراف التي تستنكر تطبيعهم مع الاحتلال، وتدعوهم للتراجع عنه، لا نصرة لفلسطين، بل سعيا وراء غايات أخرى. أما هل يعني ذلك أن الباب قد أوصد تماما أمام أي مراجعة قد تقدم عليها الرباط لعلاقتها بإسرائيل؟ فالثابت أن تشكل موقف عربي وإسلامي موحد وقوي يتبنى ذلك، هو وحده الكفيل بأن يجعل الأمر ممكنا. لكنه يبقى وللأسف الشديد وفي ظل الظروف الحالية شائكا جدا ومتعذرا.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.