تأملت كثيرا وأنا أتجول في مدن العالم الإفتراضي تتقاذفني أزقة الصفحات وتتناثر الألوان وصور الجدارات من حولي وتجرني الأسماء من شعر دماغي تريد أن تقتلع نخاعي الشوكي ، يكل لساني من قراءة حروف لاتشبه اللغاة ، أقضي ثواني في فك شفراتها العنيفة الملتوية كثعابين الأمازون ، أتركها أحيانا وأحيانا أخرى أقاومها لأصل إلى الفهم ، مرة أضحك منها ومرة أضحك من نفسي لأنني أراها تقتل زمني ، ومرة أتخد منها مختبرا لأصل إلى فهم عقليات هذه الأمة ، فتتكسر قنينات مختبر دماغي لهول ما أتابعه من سخافة وطيش فكر وقلة حياء علمي وتربوي .خليط من بشر سقط سهوا على هذا الكوكب استعمره الفراغ وخلق منه جيشا افتراضيا سلاحه جهله وأدوات حربه قواميس من الغل والذل الفكري ومسدسات رصاصها القذف وقلة الحياء والتفسخ شبه الحيواني ، وكأننا في ساحة حرب كونية لاقائد فيها ولا جنرال والغالب فيها هو الجهل ( وقلة ما يدار ) .الجميع يكتب والكل يرد ويسب ، الكبير في السن تساوى مع الفتى ، والمرأة صارت آلة عجن لكل ماهو طالح وغير سوي ، ماتت نخوة الكتابة وأدبيات الرد والإجابة ، وتكسرت أسوار الإحترام ، وتهدمت حدود اللباقة وحسن آداب الكلام ، ووضعت صفحات هذا الفايس في ساحات الاقتتال الكلامي والعنف اللفظي بين أفراد شعب واحد يسب الشمالي فيه الجنوبي ، ويسخر الأمازيغي من العربي والدولة تراقب وتتابع ولا تحرك عصى القانون ولا تضرب الخارج عن حدود الفعل والجرم ، والنتيجة صناعة عدوان مجاني لايخدم مصلحة هذا البلد ، ويهيئ لنا جيلا لا ينفع لا في العادة ولا في العبادة.
لقد اتضح جليا أننا سلمنا واقع مستقبلنا ووضعناه في صناديق إلكترونية لاتسع لدفن ثعبان ، صناديق بلاستيكية قدرناها تقديرا بل فينا من وصل به الأمر حد عبادة هاتفه وصار نصف الشعب مملوكا لهذه الشبكة العنكبوتية التي قيل فيها أنها أهون البيوت ، وهاهي قد خربت أخلاقا وبيوتا وتحولت إلى حلبات للصراع ونقل الجرائم بل تعداها إلى حد التفرج على التمثيل بالجتث والاغتصاب الجماعي والحرق التثاري وأمام القضاء والأمن وكل من يهمه مصير الأمة .
هذا الفيسبوك لم يعد موقعا للتواصل المجتمعي بل أضحى قنبلة حارقة وحصانا وحشيا غابويا يدوس قيمنا دوسا ، حصان غير ملجم يركبه جيش من الطفيليات البشرية غير النافعة التي تتغذى على نفايات باعوض الأخبار المهترئة والصور الجارحة العامرة مرة بالدماء ومرة بقلة الوقار والحياء …
هذا الفايسبوك سار سبورة الفضح المجتمعي الذي رقم مستوانا في ذيل قائمة الأمم ، وماذا تسمي الدولة جرائم الإغتصاب المنشورة على صفحات المجتمع وهي التي تملك أزرار الإغلاق والمتابعة ، وخلفها أمن مختص وقضاء واسع بيده كل الصلاحيات التي تحفظ الأمن والعدل وشرف الأمة .كل المنافذ صارت مفتوحة في هذا الفايس على كل الإحتمالات ، كل يوم نستفيق على جرم أو فضيحة أو ذبح أو اغتصاب ، وكل يوم يوزع جيش الذباب الإلكتروني أفلام الرعب المجتمعي حتى صار رعاة البقر صعالكة الزمن يوزعون صورهم بالسيوف وكأننا في المعارك الصليبية وغزوات التثار ، وفي ركن آخر من هذه الشبكات فرق تتقاذف السب والشتم وفيديوهات العري الساقط ، ومن نجى منهم من هذا ارتمى بين أحضان العشق الإباحي الرخيص ، وصار يبحث عن أنثى يفرغ فيها كبثه أمام الملإ حتى صرنا مجتمعا متفسخا مفتوحا على كل شيء .لا أريد أن أصب جهنم غضبي على جيش الفايسبوك فلست ناقدة لما هو حداثي متجدد ، ولست من حملة الفكر المغلق الضبابي ، ولكن ما نتابعه اليوم في هذه الصفحات لايبشر بخير بل يندر بتفجير بركاني مجتمعي غابت فيه المؤسسات الأمنية المعنية بالأخلاق والجريمة ، وصارت حياتنا مهددة بصور الدمار وعدوى العداء وأفلام الجرم والدماء ، صرنا نحمل هواتف مليئة بالرعب نعبئها كل يوم ونشحنها كلما فرغت ، ليس للتواصل والمعرفة أو لتوزيع باقات التحايا وصلة الرحم ، لكن لنتابع أين حط قطار الجريمة هذا اليوم ، ومن الضحية التي سقطت هذا النهار ، وأي وحش سيطل علينا بسيف الحجاج .
قفوا معي وقفة تأمل أعزائي القراء فأنا لم أكتب في فسحة هذا الصيف لأزعج راحة استجمامكم ، ولكن هو ناقوس خطر ومسدس صامت رصاصاته قاتلة نحمله بين أيدينا ندفع فيه كل يوم ميزانية مهمة ، لكن لا نربح منه غير القبح والشؤم وصور الدمار ، اجعلوا من هذا الفايس مدرسة وطنية وجامعة مجتمعية ودروس في الوعي الوطني وحولوا صفحاته الى كراسات للتعليم المجاني وسبورة للحب والإحترام ، اصنعوا منه عائلة مغربية واسعة الجهات وحاربوا من خلاله كل موجات الإجرام والإنحلال ، سافروا عبر صفحاته لتشاهدوا رقي الأمم ، حتى لاتصبحوا شعبا يستهلك من موائد فضلات الشعوب التي بدأت تكتب عنا حذاري من المغرب فإنهم يقتلون الضحايا أمام عدسات الفايس ، لأن هناك جمهور عريض يثقن فن التوزيع والفرجة …
بقلم: مديحة ملاس باحثة في قضايا المجتمع
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.