قد يبدو الأمر مجرد تطور وانتقال طبيعي، قد يحدث في أي مجتمع. لكن الشيء الغير طبيعي في مجتمعنا، هو سرعة هذا التحول و التداخل في طبيعة المطالب، والطفرة في الوسائل المبتكرة للتعبير عنها.
لقد سبق لمجتمعات قريبة منا ومجاورة لنا أن شهدت عمليات للانتقال من البداوة إلى حياة التمدن، واستغرقت في ذلك ردحا من الزمن، و أفرز هذا التدرج الطبيعي الذي عرفته هذه المجتمعات، تقسيمات واشكال مختلفة للمطالب وطرق التعبير عنها.
بينما نجد أنفسنا في مجتمع الساقية الحمراء وواد الذهب قد تحولنا إلى حياة المدن بما يفوق نسبة 90 بالمائة، في فترة جد وجيزة، تضخمت معاها مطالبنا وحاجاتنا.
لسنا مسؤوليين بشكل مباشر عن سرعة هذا التحول، ولا عن حجم هذا التضخم، لأن وضعيتنا ليست سوى نتاج لظروف سياسية وعسكرية خاصة بمنطقتنا لا تخفى على أحد.
ولنكون منصفين بشكل أكبر فإننا لن نبرئ ذمة الظروف والمسؤوليين عنها، وفي نفس الوقت لن نلقي كل اللوم على تلك الظروف بمفردها ، دون أن نقوم بعملية نقد ذاتي لمجتمعنا، و للتغييرات التي كنا سبب مباشر فيها.
إن أول مفتاح لهذه العملية هو أن يعترف الجميع أن هناك فئة من هذا المجتمع المترامي الامتداد شمال وشرق وجنوب الساقية والوادي، هي التي شكلت قوام الخصوصية ،التي جعلها الجميع مفتاحا لتحقيق المطالب.
ليس هذا فحسب فهذه الفئة المشكلة من مايزيد عن 74000 من سكان الصحراء الاسبانية آنذاك، وحسب احصاءها الرسمي لسنة 1974, تبقى الأكثر تضررا من جميع السياقات التي واكبت التحولات في بنية المجتمع. وهي الأقل استفادة من كل ما تم توفيره من طرف السلطات تلبية للمطالب الاجتماعية.
لقد اتسعت بذلك دائرة المطالبين والمستفيدين على حد سواء، دون أن تكون لأحد الجرأة والشجاعة أن يعترف بأن هناك فئة يحاول الجميع طمرها واستبعاد خصوصيتها، تارة تحت شعارات ومرجعيات مختلفة، و بلغة المصالح والاستراتيجيات تارة أخرى.
انقسمت هذه الفئة بين طرفي الجدار شرقا وغربا، ووجدت نفسها محاصرة بايدولوجيات مختلفة، جعلتها تذوب في مجتمع الأفكار والسياسات بدل مجتمع الأعراق والاوطان التي كانت فيه.
قد يكون هذا التحول ايجابيا لصناعة مجتمع حديث ومدني، ولكن المجتمعات لا تصنع على حساب حقوق أقلياتها والمتواجدين على أطرافها، ناهيك أن تصنع على حساب غالبيتها و بعيدا عن مركزها الحقيقي.
لم يسجل التاريخ على هذه الفئة في ظل كل سياقات التحولات التي شهدتها المنطقة ، أن حاولت استبعاد امتدادها الجغرافي أو العرقي في كل من داخل المغرب وموريتانيا والجزائر، بل رحبت بالجميع واحتضنت الجميع، ليس منة منها أو تفضلا، بل هو واجب عليها تمليه قيمها.
وعليه فلابد أن يعالج الاختلال الحاصل في التعامل مع مطالب هذه الفئة ، التي لا تدعوا إلى احتكار المنافع، أو انتزاع أو حرمان أي طرف منها ، بقدر ما تريد أن تستفيد وتلبى مطالبها أخذا بالاعتبار أنها خضعت لعملية تحول سريعة من نمط عيش تعرفه وتجيده، إلى نمط عيش جديد لم تآلفه ولا تجيد التعامل معه.
إن فهم عمليات التحول ومعالجة اختلالتها، والتعامل الايجابي مع المطالب المعلنة، والحد من الآثار السلبية لبعض الأساليب الاحتجاجية المبتكرة الغريبة والخطيرة على الاستقرار والسلم الاجتماعي، كلها تمر عبر مسلك واحد لابد أن ينطلق من مركز الدائرة التي تشكل مجتمع الساقية الحمراء ليصل إلى جميع امتدادتها شمالا وجنوب وشرقا،
وليس عن طريق عملية عكسية تجعل من المنطقة دائرة مغلقة، تتغير ألوان أطرافها بين الاخضرار والاصفرار، بينما يظهر مركزها كبركان خامد تحت الرماد…!!!
بداد محمد سالم باحث في الحركات الإجتماعية
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.