هل أخفق الفكر السياسي والحزبي بالمغرب ؟. لنعترف أولا أن لهذا السؤال بصمة صابون منزلق بين الإيجاب ب “نعم” والرفض ب “لا”. من تم فلن ندخل في جدال المقارنات بين ماضي النشأة وحاضر لمسة الإخفاق. ليكن قصفنا الأول غير رحيم عما آلت إليه وضعية الأحزاب السياسية المغربية والتي تحولت إلى شبه دكاكين انتخابية. ليكن نعتنا الوصفي لمجمل تحولات ردة الفكر السياسي المغربي في غياب مشاريع سياسية حقيقية مندمجة مع رؤية تنمية الوطن. إنه الوهن و جفاف النقاش السياسي المسرطن الذي أصاب الأحزاب. إنه غياب التنظير السياسي الواقعي كإجابات شفافة وشافية عن إشكالية الحداثة و الأصالة السياسية، وعن تفكك القناعات واندحار المرجعيات الإيديولوجية .
فيما الأمر غير الصحي بتاتا يبدو في تفريخ نمو الأحزاب إما بالانشطار أو بالدوافع الانتهازية السياسية، حتى وصل الحقل السياسي حد التخمة وساد كساد النخبة السياسية. قد لا نختلف البتة بنعت التوالد الحزبي المتنامي بتوالد أجنة الخدج . أحزاب لا تحمل رؤية إستراتيجية واضحة، وبدون برنامج تنموي حصري. إنها أحزاب تنشيط الحملة الانتخابية فلا قيمة مضافة لها، ولا تأثير بين لها على الحقل السياسي المغربي. هنا نوثق أولى خلاصتنا ونقر بأن المغرب عرف قفزة مدوية من الأحزاب المواطنة (التقليدية) إلى أحزاب مقاولة ضيعة إقطاعية السياسة.
أزمة الفعل السياسي المغربي يحكمه سياق عام بين حضور(شيخ/ الزعيم ) الماضي وبين (مريدي/ مناضلي) الحاضر. وهو النسق غير العادل الذي طوح ببوابة الحداثة نحو خانة التأجيل أو التوليف الحربائي بين المرجعية التقليدية والعصرية. إنه ملخص التصور البراغماتي لمنظري الفكر السياسي المغربي الحديث. إنها رؤية حركة الدولة العميقة المتناسقة في تحريك اللعبة السياسية المغربية بقاعدة ” الثابت والمتحول” حيث يجدد المخزن نفسه عبر دساتير ليبقى هو الثابت، بينما الأحزاب هي المتحول وتلعب دور البطولة المرحلية، لتعود في المسلسل الانتخابي الموالي إلى الاكتفاء بأدوار الكومبارس الديمقراطي فقط.
لن نسقط في فخ طرح البحث عن أي تصنيف للأحزاب سواء منها القديمة ولا الجديدة ، لن ننعتها لا باليمينية ولا اليسارية ولا التقليدية ولا الوطنية، لن نجري مداد الكتابة ونفيض في التصورات المتهجية للفكر السياسي المغربي والذي يغرف نقلا من الماضي، و بالنسخ والنقل الممل (كوبي كولي) من الأدبيات السياسة العالمية في الحاضر. في حين تتم موالاة الحداثة مرة بالاستبعاد ومرات عديدة بالانتقائية الخادمة المطيعة.
تصقيل الفكر السياسي للأحزاب المغربية عند كل موعد فتح الدكاكين الانتخابية يعد أداة معول تنسف ما تبقى من جيل رواد الفكر التنظيري السياسي المغربي ( علال الفاسي/ المهدي بن بركة…)، هي السياسية الفظة التي نقلت المغاربة بالتجربة والممارسة إلى امتلاك أسلحة الفساد والإفساد السياسي، هي سياسة تلميع صورة الزعيم الذي يسود بالتحكم والتفصيل حسب مقاسات الالتصاق بالكرسي، هو العزوف عن السياسة و أكاذيب السياسيين الكبار، هي الثقة التي شقت عصاها الطبقة السياسية المغربية بالبدء، هو الإفساد العلني وكساد رؤية الفعل السياسي الحديث بالمغرب ” وإذا أصبح ملك المغرب، غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟”(من خطاب العرش 2017).
فقر تجديد الفكر السياسي للأحزاب المغربية ونكوصه التام عن الطموحات العليا للمواطنين، انعكس بعلو نسب العزوف عن الانخراط في اللعبة السياسية والتوجه إلى صناديق الاقتراع، عوز الأحزاب في تجديد نخبها السياسية بالتشبيب جعلها تصل مرحلة الهرم بحد السرعة النهائية التي أنهكتها و أصبحت الحمية سيدة مواقفها، وباتت تستعمل منشطات الخرجات الشعبوية.
وللحقيقة التاريخية ضبط توثيقي فحين تم اعتماد الاقتراع باللائحة بدل الاقتراع المباشر، فقد تم تقديم خدمة مجانية من طرف الدولة للأحزاب السياسية، كيف تم ذلك؟. حين تمت المطالبة بتجديد النخب السياسية المغربية ، حين ضاقت المزدوجتين على القيادات الحزبية بالتجديد، حين بزغ ظهور فئة من السياسيين يحملون رؤية العدالة الاجتماعية. هنا سيتحول الصراع من الساحة السياسية الخارجية بالموازاة مع الكتلة الناخبة المميزة إلى صراع آخر ربح سعده صقور الأحزاب السياسية بالاستواء على رؤوس اللوائح لزوما.
إنها أزمة الديمقراطية المغربية والتي وصلت إلى فوهة القنينة المسدودة، فلا نستثني أحدا من الأحزاب السياسية ونشمل القول بأنها تعيش أزمة حقيقية داخليا مع مكوناتها الهيكلية، وخارجيا مع المجتمع و رؤية الدولة للإصلاح السياسي. أزمة لن تنفك كبتها تتفكك بالحلول الإجرائية إلا من خلال إحداث رجة داخلية تصيب مكونات الحزب وهياكله، والانتقال إلى مفهوم “المجتمع الكبير” المغربي بغاية بناء ثقة متفاعلة بين النخب السياسية و المواطنين، من خلال خلخلة يكون سندها الموضوعاتي و الوظيفي مساهمة المواطنين في إنقاد السياسة من الفوهة الخانقة.
لكنا نقر بالاعتراف من وجود عنصر إكراه عند الأحزاب ، فالتاريخ لقننا أن المخزن بتاتا لم يرفع يديه عن تدوير مشهد الممارسات السياسية. لذا لا بد من التحلي بعنصر الثقة الموازية بين الدولة والأحزاب السياسية باعتبار هذه الأخيرة إحدى المكونات الأساس للديمقراطية الكبرى للدولة. من تم يتم تخطي مفهوم إضعاف الدولة للأحزاب السياسية، فمصلحة العباد و الوطن أسمي من مناصب سياسية بخسة.
فالمتخيل الشعبي / السلبي عن أدوار واختصاصات البرلمان المغربي يستند إلى نعت البرلمان بقلعة الفساد المحصنة، ومأوى الشعبوية والفرجة المجانية. هنا يضيع الإصلاح السياسي، تضيع برامج الأحزاب السياسية إن وجدت، يتدنى مستوى تنقيط الديمقراطية من حيث الحكامة وإدارة التغيير، و تنمحي سبل النجاعة والتعبئة المجتمعية نحو مشروع الإصلاح السياسي والمجتمعي.
ممكن أن نكون قد أكثرنا من الفحص المجهري / الإشعاعي لوضعية الأحزاب السياسية المغربية دون التطرق إلى توصيف بدائل تنقل الأحزاب من غرف الإنعاش إلى الحقل الشعبي التأطيري للمواطنين، تنقل الأحزاب من مفهوم شخصنة “الزعيم ” وتجييش “المريدين و الفصائل” إلى مواصفات الديمقراطية الداخلية، تنقل الأحزاب من الاحتماء وراء القصر نحو الاحتماء بالعمل المؤسساتي والحكامة والأيادي البيضاء الخالية من ملوثات الفساد.
بين أزمة الأحزاب ورؤية الإصلاح لن تستوي طنجرة اللعبة السياسية بالمغرب. فالموقد الرزين للفعل السياسي لن يتم تذوق نكهتة السوية إلا عبر بوابات إصلاح تطوح بوجوه تنفر من السياسة والسياسيين، عبر تخليق الفعل السياسي وربطه بالمساءلة والمحاسبة، عبر هيكلة متنامية للمؤسسات الحزبية بالاندماج أو ترشيد الفعل السياسي، عبر مراجعة آليات تقويم المكاسب الانتخابية، عبر مجابهة بنيات التحكم وعقليات الزعيم المستبد. فلن نحتفي بالديمقراطية المغربية الفريدة في ظل غياب أحزاب تصنع تنظيرا حزبيا وازنا و تخلق فعلا سليما للممارسة السياسية.
ذ/ محسن الأكرمين.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.