قراءة في: “عودة المجبرين”… لحنان البويحياوي الادريسي

abdelaaziz624 أكتوبر 2025Last Update :
قراءة في: “عودة المجبرين”… لحنان البويحياوي الادريسي

بقلم: محمد اكن 

 

هناك نصوص تُكتب لتُقرأ، وأخرى تُكتب لتُحسّ. و”عودة المجبرين” للكاتبة حنان الإدريسي تنتمي إلى الفئة الثانية، إلى تلك النصوص التي لا تكتفي باستحضار الماضي، بل تُعيد تشكيله في وجدان القارئ، فتتحول القراءة إلى فعل تذكّرٍ جماعي، وإلى رحلةٍ في ذاكرةٍ ما تزال مفتوحة على الجرح والحنين معًا.

في هذا العمل الأدبي، تفتح الكاتبة بابًا على واحدة من أكثر الصفحات قسوةً في التاريخ الإنساني للمغاربة: الطرد التعسفي والتهجير القسري الذي تعرّض له آلاف المواطنين المغاربة في الجزائر أواسط السبعينيات، حين وجدوا أنفسهم فجأة يُقتلعون من بيوتهم، يُرحّلون من أرضٍ ظنّوها آمنة، ويُحمَّلون في شاحناتٍ لا وجهة لها إلا الألم. لم يكن ذلك الطرد فقط جريمة سياسية، بل جرحًا إنسانيًا ما زال مفتوحًا في الذاكرة المغربية، جرحًا لا يندمل لأنّ وراء كلّ رقمٍ في تلك المأساة كان هناك وجه، واسم، وحكاية، وحلمٌ بسيطٌ بوطنٍ يحتضن لا يطرد.

حنان الإدريسي لا تكتب التاريخ بل تُنطقه. في “عودة المجبرين” يتحوّل النص إلى فضاءٍ للعدالة الوجدانية، تلتقي فيه أصوات المطرودين، وأنين الأمهات، ودموع الأطفال الذين كبروا في الغربة وهم يحملون رائحة بيوتهم القديمة في الذاكرة. لغتها ليست لغة اتهام، بل لغة استحضار. فهي لا تكتب لتدين، بل لتُذكّر. لا لتستعيد الماضي من باب الحقد، بل من باب الوفاء. وفاءٌ لتاريخٍ مؤلمٍ لكنه جزء من الهوية الجماعية التي لا يمكن محوها.

ومن خلال هذه الرؤية، تُعيد الكاتبة صياغة معنى العودة: فليست العودة إلى الأرض وحدها، بل إلى الذات، إلى الذاكرة، إلى تلك المسافة الداخلية التي تُعيد للإنسان توازنه وكرامته. وحين نقرأ “عودة المجبرين”، ندرك أن العودة ليست جغرافية بل وجدانية؛ إنها عودة الوعي بالمغرب كبيتٍ معنويٍّ يحتضن أبناءه حيثما كانوا، وكذاكرةٍ لا تُقفل صفحاتها مهما تغيّر الزمن.

ولعلّ ما يمنح هذا النص عمقًا إضافيًا هو تزامنه الرمزي مع الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، تلك اللحظة التاريخية التي أعادت تعريف معنى الانتماء والكرامة في الوجدان المغربي. بين “عودة المجبرين” والمسيرة الخضراء خيطٌ إنسانيٌّ مشترك: كلاهما فعلُ عودةٍ وكرامةٍ وسلام. فكما استرجع المغاربة أرضهم بالحكمة والإيمان، تسترجع الإدريسي في نصها ذاكرة المطرودين بالكتابة والوفاء. كلا المسيرتين تنبعان من الروح نفسها، من تلك القوة الهادئة التي تجعل من المغرب وطنًا لا يشيخ، ووعدًا لا ينكسر.

ومن خلال هذا البعد الرمزي، يبرز وجه المغرب الحقيقي كما رسمته الكاتبة: بلد لا يتخلى عن أبنائه، بلدٌ يظلّ حاضرًا في تفاصيلهم أينما حلّوا، مدافعًا عنهم في المحافل، راعيًا لهم في الأزمات، مؤمنًا بأنّ الجالية المغربية ليست امتدادًا اقتصاديًا فحسب، بل امتدادٌ وجدانيٌّ وتاريخيٌّ لهويته في العالم. المغرب في نصّ الإدريسي ليس دولةً فقط، بل أمًّا كبيرةً تعرف أبناءها جميعًا وتظلّ تفتح ذراعيها لهم مهما ابتعدوا.

حين تكتب حنان الإدريسي، فهي تُعيد الاعتبار للمأساة عبر الجمال، وتحوّل الجرح إلى درسٍ في الكرامة. كأنها تقول لنا: “لقد عانى المغاربة، لكنهم لم يفقدوا إنسانيتهم، ولم يسقطوا في الكراهية.” إنها كتابةٌ تُذكّرنا بأنّ العظمة الحقيقية ليست في الردّ على القسوة بمثلها، بل في تحويلها إلى طاقة حبٍّ وذاكرةٍ تضيء.

في عمق النصّ، يسكن السؤال الأعمق: ما معنى الوطن؟

الوطن، كما تصوّره الكاتبة، ليس جدارًا من الحدود ولا علمًا يرفرف في السماء، بل وعدٌ دائمٌ بالاحتضان. هو ذلك الإحساس الذي يربطك بما كنت، وبما ستكون، مهما حاولت المنافي أن تُعيد تشكيلك. ولذلك، فإنّ “عودة المجبرين” لا تحكي فقط مأساة المغاربة المطرودين من الجزائر، بل تحكي قصة الإنسان في كلّ مكانٍ حين يُسلب منه الأمان، ويُترك ليعيد تعريف ذاته من رماد الذاكرة.

إنّ القراءة في هذا العمل هي قراءة في ضمير أمةٍ اختبرت الخذلان، لكنها اختارت الارتقاء عليه. وهي أيضًا قراءة في مشروعٍ مغربيٍّ مستمرٍّ يقوم على حماية الإنسان قبل الأرض، على الوفاء قبل المصلحة، وعلى الإيمان بأنّ الشعوب التي تكتب مآسيها لا تموت، لأنها تُحوّل الألم إلى وعيٍ، والوعي إلى مستقبل.

ومع اقتراب الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، يأتي نص “عودة المجبرين” كنداءٍ داخليٍّ للمصالحة مع الذاكرة، كأنه يقول: لقد عدنا من النسيان، فلنعد إلى المعنى. فلنستحضر تلك اللحظات التي صنع فيها المغاربة مجدهم بالصبر، ولنستعدّ لمسيرةٍ جديدةٍ عنوانها الكرامة الإنسانية، والوحدة الوطنية، والإيمان بأنّ المستقبل لا يُبنى إلا حين نواجه الماضي بشجاعة المحبين لا بمرارة المجروحين.

في نهاية هذا النصّ البديع، تشعل حنان الإدريسي فينا شمعة لا تنطفئ، وتتركنا أمام مرآةٍ صافيةٍ للذات المغربية: قويةٌ، متساميةٌ، كريمةٌ حتى في الوجع. وبهذا، تتحول “عودة المجبرين” إلى أكثر من مجرد شهادة، إلى أنشودة وطنٍ لا ينسى أبناءه، واحتفاءٍ بذاكرةٍ مغربيةٍ تأبى أن تُدفن تحت ركام السياسة.

إنّها كتابةٌ تُعيد للوطن صوته النبيل، وللذاكرة كرامتها، وللإنسان المغربي مكانته بين الشعوب التي تصنع من الألم طريقًا إلى الضوء.

وما بين العودة والحنين، بين الماضي والمستقبل، يظلّ المغرب كما أرادته حنان الإدريسي وطنًا يمشي في التاريخ بحذاءٍ من الوفاء وقلبٍ من حبٍّ لا يصدأ.


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading