_بقلم سعيدة بركاتي ✍️ تونس
عندما نجد بعض الكلمات بين سطور النص ، نتساءل كقراء مَ هو قصد الكاتب و إلى مَ ينبهنا بوضعها بين ظفرين ، هل هي رموز و شفرات لابد ان ننتبه إليها كقراء ؟؟ : ” ليت كل العلاقات تبقى بدايات ” ، هذا التمني قاله الكثير ، و قيل عنه الكثير بأن ” لا تغرنكم البدايات ” كلنا عابرون …
قصة لوحة بين قيل و قال : قصيدة للدكتورة إلهام عيسى أعتبرها من النصوص الشعرية المعاصرة ،في جزئين او مشهدين بين :
التعارف و القرب / و الإهمال و البعد ، أقدم لكم هذه القراءة .
القراءة :
نظرت اليه باهتمام كبير..
قيل وقال:
– تبادلا ارقام المحمول ٠٠
-تهاتفا دون انقطاع ٠٠
” قيل وقال” عتبة النص بمعنى : الإكثارُ مِن الكلامِ بلا ضَرورةٍ، أو حِكايةِ شَيءٍ لا يَعلَمُ صِحَّتَه، أو الكلامُ فيما يضُرُّ ولا يَنفَعُ.
هذا أول مشهد من القصيدة ، مشهد التعارف و اندفاع المشاعر بغزارة ، و البدايات الوردية ، ربيع العلاقة في أولها و شدو العصافير نغمها ،تتسارع الأحداث مع هذه الأفعال نظرت / تبادلا / تهاتفا : الإهتمام الكبير و المبادرة كانت منها ” هي ” التي نظرت إليه باهتمام كبير و نقاط التواصل للمساحة الحرة إلا ليتخيل القاريء النظرة و ما تبعها ، فيتساءل ،هل هو الحب من أول نظرة ؟!
قديما و ليس بالبعيد ،كانت هذه الأحداث تأخذ زمنا طويلا ، و اهتماما أكبر و شيئا من المعاناة حتى يرى الحبيب حبيبته ، كانت الأحلام سيدة الموقف و الليل الرفيق الوحيد ، و في صدره يُدفع بالأسرار و الشكوى كان الأرق و السهاد ، و السهر على ضوء القمر رفقة النجوم ، كانت حبيبة واحدة و حبيب لا يثنى أبدا ” فما الحب الا للحبيب الأول ، قديما كنا نستهزئ بهذا البيت لشوقي
” نظرة فابتسامة فسلام / فكلام فموعد فلقاء .
تبادلا أرقام الهاتف و تراسلا ” دون انقطاع ” هذه هي البدايات ، حب في عصر التكنولوجيا و سرعتها ، و ما يأتي بسرعة يأفل سريعا .
فنستنتج مبدئيا أن هذا النص صورة من صور الحياة و ما أفرزته العلاقات عبر صفحات التواصل الاجتماعي”.
في المشهد الأخير و الذي كان على شكل سؤال انكاري :
اما يكفيك طوال الليل والنهار
قيل وقال
تسافر بخيالاتها بين مدن كثيرة وهي تصطحبه في مخيلتها كحلم وردي تتمناه ان يطول .
وصلت الشاعرة إلى قمة معاناتها و أصبحت ” مقيدة كلها بهذا الهاتف ، و الأم رغم انها عجوز ، قد انتبهت لابنتها و تعلقها بالذي بين يديها ، سؤال كان نهي في نفس الوقت ، هو منبه او جرس انذار على شكل صوت الأم لعلها تستفيق من غفوة حلمها . لم و لن يغادر يدها رغم هذا الجفاء و انقطاع أخبار الحبيب عنها ، قد أصبح مجرد حلم ، لماذا ؟ لأنه فعلا مجرد صورة على شاشة موبايل ، و لا شيء منها محسوس .
بين المشهد الأول و المشهد الأخير مراحل مرت بها ، نتائجها كانت وخيمة خاصة على مشاعرها و أحاسيسها ، فهي التي ” اهتمت به اهتماما كبيرا ” ،
و انخفضت حرارة الشوق … شوقه لرؤيتها و محادثتها فهي التي ” تأففت ” ، و التأفف يولد من الملل و طول الإنتظار ، و تبدأ الحجج و الأعذار … و هو الإنذار الأول بالإنسحاب ، و تقل الرسائل بعد ان أصبح القلب متعلقا برنة رسالة ، قد تعود هو الآخر ، و الساعة البيولوجية عُدل توقيتها على موعد هذه الرسائل ، فالقلب يخفق بزيادة عند سماع الرنة …
لايوجد رسائل تشير إلى لقاء ينهي كل النهايات ٠٠
همست بينها وبينه وهي تدق براحة يدها على الهاتف تتألم ٠٠تكتم أنفاسها ٠٠تخفي أوجاعها ٠٠تعلو ضحكاتها ٠٠ويختنق البكاء في حنجرتها ٠٠
مقطع أبدعت فيه الشاعرة الوصف للحالة النفسية التي تمر بها ، مساحات التخيل كثيرة ، كرواحها و مجيئها و هي تنتظر رسالة ، ككلامها مع ذاتها كمجنونة ضاع منها عقلها ، أو ضاع منها شيء نفيس … فالضحكة في هذا المقطع هي حالة هستيريا وصلت إليها الشاعرة فقد اختنق البكاء في حنجرتها .
المشهد شبيه بلقطة من شريط سينيمائي أبدع السيناريست كتابته و أتقنت الشاعرة دوره …
من الإعجاب إلى الإهتمام الكبير إلى التعلق و الحب إلى هوة الخذلان ، هذه خلاصة قصيدة الدكتورة الهام عيسى. و يبقى التمني … ” ليت كل العلاقات تبقى بدايات ” فأستحضر البيت الثاني لشوقي بعد النظرة و الإبتسامة ….يقول :
ففراق يكون فيه دواء / أو فراق يكون منه الداء
كذلك درويش قال : غرباء ثم أصدقاء ، ثم أحاديث طويلة ، ثم أحبة ، ثم حديث قليل ، ثم غرباء .
فكأن الإقتراب بات خطيئة في زمن التكنولوجيا .
بين قيل و قال سافرنا في رحلة حقيقية ” للوحة ” من واقع الحياة ، أبدعت فيها الدكتور إلهام الوصف ، رسمت بالحرف تفاصيل صغيرة ، كنقر الأصابع على شاشة التليفون ، و هذا ما يصف درجة التوتر التي وصلت إليها من طول الإنتظار ، تنبيه الأم بسؤالها الإنكاري ما يعمق شدة التعلق بمن هو وراء الشاشة ، عدم الإنتباه لذاتها التي أشرفت على الهلاك من شدة التعلق و هذا من خلال أفعال القمع الواردة التي كانت متلاحقة : / تتألم / تكتم/ تخفي/ حد الهستيريا مع فعل -تعلو ضحكتها ليختنق البكاء في حنجرتها.
الشاعرة غيبت كليا دور المحبوب ، لم نر منه أية ردة فعلا إلا بفعلي تبادلا / تهاتفا ، ( صورة البدايات ). فالخذلان أشد من الفقد ، كأسه مكسور الحواف ، فهذا المحبوب صفع محبوبته بيد الهجر و اللامبلاة ، حتى النهاية لم تكن مثل النهايات كانت دون وداع ” لايوجد رسائل تشير إلى لقاء ينهي كل النهايات ..”
نص قد يراه القاريء مزج بين الخيال و الواقع ، كان موجها لكل من يمسك بهاتف بين يديه ، لكل من ينبهر بالبدايات ، بين سطوره نصيحة ثمينة جدا اختصرتها الشاعرة و وجهتها لنا بكل وضوح قائلة في ما معناه لا تغرنكم البدايات كلنا عابرون ، و لا تتعلقوا بالحبال الواهية ، فالشيء الغير ملموس ليس إلا سرابا …لتكون قفلة النص مع فجائية ، ينقطع تيار الكهرباء و تنير دربها بمصباح الهاتف .هكذا هي الشاعرة إلهام عيسى ، مع قصائدها تُبصر النور في آخر النفق ، و فجاة إلا صحوة من غفوة ، و انقطاع التيار الكهربائي رسالة مشفرة بانقطاع الأخبار عنه كليا ، و الطريق التي ستبصرها بين الحديقة و غرفة النوم إلا طريق ستنتهي مع بزوغ شمس يوم جديد عسى مع نومة هادئة تبدأ بالتعافي و تلملم ذاتها المبعثرة ، فالإتجاه لم يكن إلا إلى غرفة النوم .
فجأة ينقطع التيار الكهربائي يتحول هاتفها الى مصباح لتبصر الطريق من ساحة الحديقة إلى غرفة نومها.
بقلمي سعيدة بركاتي ✍️ تونس
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.