بقلم :محمد سعد عبد اللطيف ،مصر،
يا وابور قولي
الى أين يمضي قطار الليالي.،
في طريقي من مدينة “ميلانو الإيطالية” الي هامبورج في شمال المانيا ،
لم أعرف ان القطار غادر الأراضي الإيطالية ،ودخل الي الأراضي السويسرية وجبالها الوعرة من سلاسل جبال الآلب الشاهقة، في صيف مثير ونادر كحفل متنقل،
ودخل السهول المفتوحة مع شروق الشمس علي بحيرة مجاورة لشريط سكة القطار ،
الا عندما وقفت أمامي بائعة القهوة في القطار لتقول لي بلهجة إيطالية غريبة عن اهل “ميلانو”
“كيف تريد القهوة…؟
قلت مندهشاً من اللهجة لإنني لم اشعر بدخول القطار الي الأراضي السويسرية ،، وبلا تفتيش ولا حواجز كالسفر داخل بلدة واحدة في هذه الدول:
” أين نحن الآن من هذا العالم …؟ أين نحن من الشعارات التي تعلمنها {أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة }
بالتهذيب السويسري الراقي المعروف قالت باسمة:
” نحن دخلنا سويسرا وعلي مشارف محطة مدينة “زيوريخ “قلت مع نفسي :
نحن اذا سافرنا من قريتنا الى المدينة ، ومن الطابق الاول الى الثاني،
ومن بلدة الى أخرى، بل من شارع الى شارع،
فعلينا أن نحمل كل الوثائق لنواجه مختلف أنواع الأسئلة من
الشرطة،
ونفكر بكل أنواع الذنوب الحقيقية والمتخيلة،
حتى نصل المكان الأخير،
وقد تقلصنا من الخوف الى أصغر حجم.،، سويسرا يوجد بها ثلاث لغات الإيطالية والفرنسية والالمانية ، وهي لغات مختلفة عن بعضها ،ورغم ذلك الاختلاف يمكن التفاهم.
عدت وجلست في مقعدي وفتحت،التابلت، لحمل الملفات وقراءتها على شكل كتاب وفي الوقت نفسه الأرشيف الخاص لكل ما كتبت وكل الرسائل والصور ومكتبة كبيرة وكل عبارة أو كلمة أو قصاصة ورق أو تذكرة سفر أو فندق وهو مصدر وذاكرة احتياطية للكتابة الموثقه لآي كاتب أو روائي،
لكني عثرت في ثنايا الملفات على أغنية “محمد عبد الوهاب ”
يا وابور قولي رايح على فين”
” كما لو ان القطارات القديمة من قطار الشرق الفرنساوي في قريتنا تطاردنا في هذه السهول السويسرية المشعة،
ومع انسياب الأغنية شعرت ان هذه الرحلة نحو أمكنة أخرى،
وقطارات أخرى وحقول وقناطر وسهول أخرى.
يا وابور قولي رايح على فين
يا وابور قولي وسافرت منين
يا وابور قولي
عمال تجري قبلي وبحري تنزل وادي تطلع كوبري
حود مره وبعدين دوغري
م تقول يا وابور رايح على فين
صوتك يدوي وانت بتهوي
والبعد اليم ناره تكوي
والأرض بساط وانت بتطوي
م تقول يا وابور رايح على فين”وعندما وصلت الأغنية الى مقطع:وسافرت منين
يا وابور قولي يا وابور قولي
قربت قريب وبعدت غريب وجمعت حبييب على شمل حبيب
والقرب نصيب والبعد نصيب
م تقول يا وابور رايح على فين
أن طال الوقت على الركاب يجري كلامهم في سؤال وجواب
بعد شويه يبقوا احباب وده يعرف ده رايح على فين على فين
انا رحت معاك ورجعت معاك
وانا ايه كان مقسوم لي وياك” سمعت خلفي صوتاً مباغتاً كمطر صيفي في يوم مشرق، لكن أصابعاً وضعت على كتفي من الخلف ،شعرت برعشة من الخوف ،وكأن ذاكرة قديمة من بلاد الخوف خلفي ،
والتفت.كانت امراة عربية تبكى بصوت عالٍ. في المقعد الخلفي. قالت:بلهجتها
” خوية مصري ، أرجوك، أوقف الأغنية”.عندها خيل إلي اننا في القطار المصري ، ليل وكشاف الكمسري،ومشروب ،عرق سوس،استمرت الأغنية ،
عادت لتقول أمام ذهولي وهي تقف خلفي:
” انت سمعتني، أوقف الأغنية”.
قلت في نفسي ،،يمكن إيقاف المغني، لكن كيف نوقف الأغنية؟
يمكن ايقاف الجهاز، لكن كيف يمكن ايقاف الذاكرة..؟
يمكن ايقاف القطار لكننا لا نستطيع ايقاف رحلة القلب.وقفت امامها فتاة سويسرية من المسافرين، عادة الغرب اذا شعر بتوجع الآخر، وقالت:
” انت بخير سيدتي..؟”
لم تجب لكني قلت:
” هي بخير لكنها الأغنية”
” آه…. فهمت”.
الرهافة والحساسية أهم ميزات هذه الشعوب .
اوقفت الأغنية لكني عندما نظرت الى السهول الألمانية المشرقة،
وطواحين الهواء، والأبقار في المراعي،
رآيت، في وضح النهار الصريح، الأبيض، الهادئ، قطاراً قديماً يعبر سهولاً آخرى،
قناطر وأكواخ وسمعت دق قهوة وضرب الفناجين،ورجلاً يخرج من باب المضيف،
يحمل فانوساً، ولم تتوقف الأغنية في رأسي بل صارت ترن بقوة:أن طال الوقت على الركاب يجري كلامهم في سؤال وجواب
بعد شويه يبقوا احباب وده يعرف ده رايح على فين على فين
انا رحت معاك ورجعت معاك
وانا ايه كان مقسوم لي وياك
دي كانت نظره من هنا لهناك العين عرفت رايحين ع فين
على فين يااااوابور
“سمعتها تواصل الآهات والنشيج: انه العشق العربي النقي الآصيل ،. الحزن الذي يجعل صاحبه لا يأكل ولا يشرب،
ويمسح وجهه بالتراب.كانت تكلم نفسها:
” لو أدري لماذا الدموع..؟، هل حان الوقت أفتح معها حوار
هذه المرة،، تبادلنا
أطراف الحديث ثم اقتربنا وفتحت الذاكرة “ليلة سقوط بغداد “ليرتفع مرة أخري النشيج المر.،فقدت معظم اسرتها وخطيبها ،وانها تعيش في” السويد” وكل عام تزور ماتبقي من اهلها في البلدان الأوروبية ،توقف بنا القطار في محطة( برلين )سوف تأخذ حافلة الي مدينة” هانوفر الالمانية لزيارة عمتها ،وانا كذلك بالحافلة الي هامبورج” ،
هذا ليس قطار فيلم /قطار الشرق السريع ولا قطار الشرق الفرنساوي في مدينتنا المنصورة لكنه قطار المنفي الاختياري
” قطار الحمولة والذكريات ،
قطار الليالي،
قطار السنين الخوالي،
إلى أين تمضي بركابك الميتين..؟”.يا وابور قولي رايح على فين وسافرت منين،،!!
محمد سعد عبد اللطيف ،
كاتب وباحث مصري ،في الجغرافيا السياسية ،،
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.