تقديم
مخلوقات ضعيفة ومضطهدة مختفية تخت تشادور أو برقع. تلكم هي الصورة الخالدة النمطية عن النساء العربيات التي تقترحها وسائل الإعلام الغربي، عن طريق الخلط باستخفاف بين السياقات والقوميات. هل ستكون إذن هاته النساء خارج التاريخ؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف نفسر النكوص الكبير الذي شهدته حقوقهن خلال العقود الأخيرة؟ عن هذين السؤالين وغيرهما سوف تجيب الكاتبة الفلسطينية سحر خليفة من خلال مقالها الذي كان في الأصل محاضرة ألقتها الكاتبة يوم 05 مارس 2015 بمركز الدراسات الفلسطينية التابع لمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. تعميما للفائدة، أقترح ترجمته من الفرنسية إلى العربية. نص المقال هذا شيء معروف جيدا: في الثقافة العربية كما في ثقافات كثيرة أخرى، تجسد المرأة الجنس الضعيف، الجنس الآخر، الجنس المختلف، الجنس الذي لا يرث شيئا من شيء، حتى من اسمه العائلي، الجنس الذي يمكن له أن يجلب الدناءة أو المهانة. استقبلت أسرتي (حدث) ميلادي بالدموع. كنت بنتا، الخامسة في الأسرة، قل خيبة الأمل الخامسة و، بالنسبة لأمي، الهزيمة الخامسة. إلى جانب زوجة عمي، التي أنجبت بنجاح عشرة بنين جمالهم يفوق الوصف، تبدو أمي في صورة المرأة المشؤومة. حاولت أن تظهر أكثر جمالا، أكثر ذكاء وكرامة من عمتي (ومن كل نساء العائلة)، غير أن الجميع اعتبروها الأقل خصوبة، المراة التي لا تستطيع أن تنتج ثمارا ذات جودة. لقد ورثت هذه الأحكام المسبقة وهذه النظريات. منذ الطفولة، لم أتوقف عن سماع وصف البنات -في العائلة، في الحي وفي العالم بأسره- بأنهن عاجزات، بدون دفاع، حكمت عليهن الطبيعة بأن يبقين ضعيفات دون أمل في العلاج. منذ بضعة أشهر، مع ذلك، اكتشفت أختي الصغرى أني العضو الوحيد من عائلة خليفة الذي سجل حضورا في الموسوعة الفلسطينية. قالت لي وهي تتنهد تنهيدة ارتياح: “الموسوعة لا تذكر لا أبي ولا أمي ولا عمي وأولاده العشرة الرائعين، ولا أحد من رجال العائلة؛ لا وجود هناك لأحد سواك!” بصفتي امراة عربية، مررت من مراحل مختلفة. لقد تحولت بفضل بعض التأثيرات وساهمت في طفرات المجتمع. فحتى الأسر العربية الأكثر محافظة ترسل الآن بناتها إلى المدرسة. مباشرة بعد أن يتم تكوينهن، تصبحن مدرسات، طبيبات، مهندسات، صيدلانيات، كاتبات، صحافيات، موسيقيات أو فنانات. من الان فصاعدا أصبح لا غنى للجماعة عن الكثيرات منهن، لأنهن أكثر قوة وإبداعا وأهمية من الرجال. رغم كل ذلك، وسائل الإعلام الغربي تقدمنا كمخلوقات كريهة مغلفة في تشادوراتها، تضع على وجوهها أقنعة جلدية غريبة، تماما مثل أسيرات الحريم المختفيات وراء حجابهن.أتساءل: لماذا ينظرون إلينا هكذا، مسمرات ضمن واقع أحادي وثابت؟ هل يعتقدون فعلا أننا خلقنا مختلفات عن باقي بنات الجنس اللطيف، عاجزات عن التغير؟ في المدرسة، كان معلمي يمدح دائما “التغيير” حريصا على تنويع نبرة الكلمة ومعناها تماشيا مع مظاهر الواقع العربي. هذا الزخم يمس العالم بأسره، بمن فيه القرويين الأميين والنساء، اللواتي شرعن يخرجن بدون حجاب. عشرات الآلاف منهن تابعن دراستهن الجامعية، البعض منهن أصبحن مناضلات ملتزمات في الأحزاب السياسية. ليس فقط أنهن لا يرتدين الحجاب، لكنهن يلبسن أيضا القمصان التحتية والتنانير. ومهما بدا ذلك غير قابل للتصور، فقد رقصنا على إيقاع ال”rock’n’roll” وال”twist”، رغم كراهيتنا للغربين. نحن نريد أن نعيش مثلهم دون أن يهيمنوا علينا. تبدد هذا الجو المثالي عندما توصلت إسرائيل، مدعومة بالغرب، إلى إحلال الهزيمة بالقائد المصري جمال عبد الناصر، سنة 1967. كانت هذه الهزيمة تدل على انهزام لحركتنا القومية وقناعاتنا الاشتراكية؛ وهي الفرصة التي لم يتخلف الأمريكيون وحلفاؤهم عن اهتبالها. لقد جاؤا بدعم هائل للإسلاميين لأجل خنق القومية التقدمية، مقابل ملايين الدولارات. الإخوان المسلمون، الذين تركوا الشعب في دار غفلون، صعدوا بقوة. الوضع في منطقتنا في السبعينيات والثمانينيات شبيه بالوضع في أغانستان حين مد الأمريكيون يد المساعدة للإسلاميين، وبالأخص لأسامة بن لادن، من أجل تحدي الشيوعيين. المؤسسات والمقاولات الإعلامية الغربية، سواء تعلق الأمر بالصحافة المكتوبة أو بالتلفزيون، بالسينما أو بالجامعات، تفترض أن المرأة العربية عاجزة عن التنفس أو التفكير وهي ملفوفة في تشادورها الأسود، ظل متحرك تائه في الفراغ مثل ساحرة شمطاء أو شبح مفزع. رداء المخلوق الذي نشخصه في نظرهم يدعى “اللباس الإسلامي”. ومع ذلك، أنا مقتنعة بأنه ليس إسلاميا ولا عربيا، وأنه من صنع الغرب ومجلى مربك لامبرياليته.
كانت أمي تلف رأسها في شاش شفاف أسود اللون يغطي نسبيا وجها وشعرها. كان باقي لباسها يتمثل في تنورة أو كسوة بسيطة كانت تصل حتى ركبتيها، بالإضافة إلى معطف ضيق كان يبرز صدرها وقامتها. لا شسء يمت بصلة لما نعتبره اليوم “لباسا إسلاميا”، يحول الجسد النسوي إلى كيس بشع الشكل.، كتلة معتمة، عمود دخان. في بداية سنوات الخمسينيات، التحقت أمي بحركة “سفور”، إلى جانب نساء كثيرات من جيلها. بعضهن كن مثلها متحدرات من الطبقات المتوسطة في كبريات المدن. يكفي مشاهدة تسجيلات سهرات المطربة المصرية أم كلثوم في نفس الفترة لملاحظة كيف أن أي امرأة ضمن الجمهور لم تكن تحفل آنئذ بهذا الزي المضحك. أدى الاحتلال المشؤوم لفلسطين من طرف إسرائيل إلى تقهقر في الوضعية الاقتصادية كان له تأثير مباشر على الحياة اليومية للنساء. آلاف الأسر التي فقدت أرضها، بيتها، وسقط رجالها في المعرك، وجدت نفسها مضطرة لإبعاد النساء عن شؤون البيت من أجل إرسالها للعمل أو للدراسة. هكذا بدأنا آنذاك نشاهد آلاف الشابات الفلسطينيات المثقفات يسافرن بدون خمار، يعشن وحيدات دون زواج ويحافظن مع ذلك على احترام أقاربهن في المجتمع: كن يستجبن إلى حاجيات أسرهن اعتمادا على مداخيل زهيدة. لقد وصفت حالتهن في روايتي “الميراث” L’Héritage (غير مترجمة، 1997). مع مرور الوقت، لم يعد من المقبول فقط بل من الملاحظ كذلك أنهن صرن يمولن الدراسات الجامعية لأخواتهن في مصر، في سوريا أو في لبنان، سامحات بهذا النحو لهن بالحصول على شهادات في الطب، في الصيدلة، في الهندسة، في القانون أو في تخصصات اخرى. هاته النساء الشابات، الجسورات والمتفتحات على العالم أطلقن حركة من أجل تحرر المرأة والمجتمع، حتى وإن كانت معرفتنا بالفكر النسائي تتوقف في ذلك الوقت عند المقالات المنشورة في الجرائد المصرية من قبل ثلة من الرائدات مثل أمينة سعيد، سهير قلماوي وذرية شفيق، تلكم كتابات لا تتجاوز مواضيع من قبيل التخطيط العائلي، الزواج المبكر أو تعدد الزوجات. لكن، مباشرة بعد هزيمتنا أمام إسرائيل سنة 1967، تحالفت أنظمة عربية دكتاتورية، معادية للاشتراكية، مدعومة من طرف الولايات الأمريكية المتحدة، مع جماعات إسلامية أصولية، مولتها بسخاء. جميع من كان، مثلا، يرتدي “اللباس الإسلامي” الشهير، يتلقى مرتبا شهريا من 15 دينار أردني (19 أورو) بالنسبة للرجل ومن 10 بالنسبة للمرأة. الرجال، الذين نمت ظهرت لحاهم طويلة شعتاء، كانوا يرتدون “دشداشة” قصيرة و”جلابية” ونعالا من الجلد؛ أما النساء فكن يضعن على رؤوسهن خمارا خفيفا ويلبسن جلبابا يصل حتى إبهام الرجل. كلهم شوهدوا أيضا وهم يتلقون هدايا هي عبارة عن سبحة وردية (بكسر الواو)، طبعة أنيقة للقرآن وزربية جميلة لأداء الصلاة. بدأت الجمعيات الإسلامية باستهداف الشباب الذين كانوا قد اشتهروا بصفتهم قادة وباعتبارهم يمارسون تأثيرا على الآخرين. كانت تريد أيضا الوصول إلى النساء في بيوتهن. ثم انتقل اهتمامها إلى المساجد، المدارس والجامعات. كل هذا لم يكن ليتم لولا المساعدة – خصوصا المالية – الممنوحة من طرف النظمة العربية التي تبرز ولاءها، بل خضوعها، للولايات المتحدة وهي تتبنى استراتيجيتها، على أمل أن تقضي النزعة الإسلاموية على الاشتراكيين والتقدميين بداخل مجتمعاتهم. مع ذلك، لم يكتف الأصوليون بفرض ألبستهم، مرتباتهم الشهرية والأمكنة التي فيها يلتقون. فمن أجل غزو العقول ابتداء من المدرسة الابتدائية والإعدادية، تم إعطاء الأولوية لشغل المناصب لمعلمين إسلاميين، ذكورا أو إناثا، مع تكليغهم بمهمة غرس إيديولوجيتهم في نفوس وعقول التلاميذ. لإتمام هذه التربية، يتابع المراهقون تداريب يترسخ من خلالها في أذهانهم النظام العسكري وفنون الحرب، في معسكرات أقيمت في الصحاري العربية وكذا في أفغانستان وفي باكستان. من سخرية الأقدار أن الولايات المتحدة وانصارها أدركوا مدى خطورة الأحابيل التي تركوها تتجه نحوهم، كان الشر أمرا واقعا، والمنظمات الأصولية تراهن على إقامة نظام سياسي معاد للغرب. نجتاز حاليا أزمة فكرية، اجتماعية وسياسية رهيبة. نحن مهددون من كل الجهات دون أن نعرف من هذين التهديدين أيهما أكثر قساوة: من جهة، الغرب، الذي سبق لنا أن عانينا من دسائسه، من استغلاله واستعماره؛ من جهة أخرى، النزعة الإسلاموية، التي رجعت بنا تجديداتها المزعومة إلى عهود الاضطهاد والحريم. بعبارة أخرى، لنا أن نختار بين غرب مرادف للحرية، للعلمانية والعلم، وللاستعمار كذلك، وبين إسلام عديم الشفقة يدعو إلى مقاومة الغرب، لكنه يتعارض مع العلم، مع الحداثة وكذا مع تحرر المرأة والمجتمع. هذه الفوضى العارمة لن تقف عند منطقتنا؛ إنها تمس الغرب ذاته. هكذا أصبح عنده الحجاب والتشادور أشياء تثير الخوف والإنذار، إلى درجة أن بعض الدول منعت الألبسة الإسلامية ووضع الحجاب في المدارس والأمكنة العمومية. نرزح من الآن تحت أحكام عنصرية. من جهتي، أعلن للذين يشاطرون هذه الرؤية الضيقة عن كوننا أقرب إليهم مما يتخيلون. ألن أكرر على مسامعكم أن العالم أصبح قرية صغيرة؟ سوف نأتي عبر موجات بشرية لنتجرع مرارة الفشل على شواطئكم. ومهما فعلتم من أجل الحد من هجرتنا، سوف نجد دائما الوسائل للوصول إليكم، لاجتياز العراقيل التي تضعونها أمامنا ولتأكيد حضورنا إلى جانبكم. من جهة اخرى، نحن متواجدون هناك قبلا. لاتستطيعون نفي حضورنا، لأننا جزء لا يتجزأ من عالمكم. المصدر الإلكتروني :www.monde-diplomatique.fr
ترجمة وتقديم (أحمد رباص)
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.