ابرز الدكتور منير القادري بودشيش، رئيس مؤسسة الملتقى ومدير المركز الاورومتوسطي لدراسة الاسلام اليوم، أهمية خلق الرحمة ودوره في إقامة مجتمع متضامن، خلال مشاركته في الليلة الرقمية التاسعة والثلاثين من ليالي الوصال، التي نظمتها مؤسسة الملتقى ومشيخة الطريقة القادرية البودشيشية مساء السبت 06 فبراير الجاري بمداخلة تحت عنوان: “غرس خلق الرحمة في الوجدان وفضله في بناء المجتمع والانسان” .
واكد القادري أن الرحمة هي تجل عظيم من تجليات رب العالمين، وانها من أخلاق الانبياء وسمة من سمات عباد الله الصالحين، موضحا انها تقتضي التآزر والتعاطف والتعاون وبذل الخير والمعروف، والاحسان للمحتاجين، وأضاف أن الرحمة صفه من صفات الله عز وجل يتضمنها اسمه سبحانه الرحمن واسمه الرحيم وهو رحمن الدنيا والأخرة ورحيمهما، وأن الله تعالى قد وصف نفسه بالرحمة في كثيرا من الآيات القرآنية، مستشهدا بقوله تعالى: ” وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ “، وقوله كذلك ” كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَيٰ نَفْسِهِ اِ۬لرَّحْمَةَ ” في سوره الانعام ، واستدل ايضا بما ورد في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “ان الله كتب كتابا قبل ان يخلق الخلق ، ان رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش “.
وأوضح رئيس مؤسسة الملتقى أن رحمة الله سبحانه وتعالى على الخلائق والانسان تتجلى ابتداء في وجودهما وفي نشأتهما من حيث لا يعلمون، وفي تكريم الانسان على كثير من العالمين وتفضيله بنعم العقل والتفكير، وفي تسخير الكون العظيم، موردا ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ” أترون هذه طارحه ولدها في النار قالوا لا يا رسول الله، قال لا الله ارحم بعباده من هذه بولد ها”، كما تتمثل رحمة الله ايضا حسب القادري في قبول التوبة والعفو عن العاصين والمضطرين ، مستدلا بقوله تعالى ” قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ “.
وبين بأن من رحمة الله بعباده ان شرع عليهم من الاحكام والمبادئ والاخلاق ما ينفعهم في الدنيا وفي الآخرة، مستشهدا بقوله تعالى ” وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ” ، وأضاف أن من رحمته تعالى بعباده، أن ارسل اليهم الرسل وانزل اليهم الكتب ليتبين لهم طريق الرشد وليخرجوا من الظلمات الى النور، موردا قوله تعالى في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ “، وقوله ايضا في اواخر سورة التوبة ” لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ”، كما ذكر الحديث الذي رواه ابو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة “.
وأشار الى أن خلق الرحمة والتراحم من اعظم الاخلاق والشمائل المحمدية، وأن من يتتبع سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم يجد ه رقيقا رحيما في تعامله مع الناس، وانه لم يضرب حيوانا ولم يقطع نباتا وكان يحث على الرفق في كل شيء ، والرحمة بكل ما في الوجود حتى الجماد، مشيرا الى ما اخبر به رسول صلى الله عليه وسلم ان امرأة دخلت النار في هرة حبستها، وأن بغية دخلت الجنة في كلب سقته، واورد مقولة لشمس الدين سفيري في شرح صحيح البخاري جاء فيها “فندب صلى الله عليه وسلم الى الرحمة والعطف على جميع الخلق واشرفها الادمي ولو كان كافرا ، فكن رحيما لنفسك ولغيرك ، ولا تستبد بخيرك فارحم الجاهل بعلمك والذليل بجاهك والفقير بمالك والكبير والصغير بشفقتك ورحمتك، والعصاة بدعوتك والبهائم بعطفك ، فأقرب الناس من رحمة الله أرحمهم بخلقه فمن كثرت منه الشفقة على خلقه والرحمة على عباده رحمه الله برحمته وأدخله دار كرامته ووقاه عذاب قبره وهول موقفه ، وأظله بظله إذ كل ذلك من رحمته” .
وتابع القادري أن للتحلي بخلق الرحمة فوائد عظيمة، وثمار جليلة، على الانسان ومجتمعه، كالتعرض لرحمة الله، ونيل محبته، ومن تم محبة الناس له، ونيل القبول في الارض، والتأسي بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبناء مجتمع متماسك ، يحس بعضه ببعض ، ويعطف بعضه على بعض ويرحم بعضه بعضا، مضيفا أنها تشعر المرء بصدق انتمائه لمجتمعه ووطنه وأمته، مشددا على أن من لا يرحم لا يستحق ان يكون فردا في المجتمع او جزءا منه ، مستدلا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا”، وشدد على أن أنه على قدر حظ الانسان من الرحمة تكون درجته عند الله تبارك وتعالى ، مبينا أن الانبياء كانوا اشد الناس رحمة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان اوفرهم حظا منه ، موردا حديثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه “الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الارض يرحمكم من في السماء ” .
وأشار الدكتور المحاضر الى ان الرحم?? أوسع من الحب، لأنها ” تكون لمن تحب ومن لا تحب وقد لا يدرك المرء ابعاد الرحمة والتراحم الا عند الازمات والمصائب وقد لا يشعر بآثارها الا عندما تحل به الفواجع والنكبات “، وتطرق الى آثار جائحة فيروس كورونا على العالم، مؤكدا على الاهمية البالغة لخلق الرحمة للعيش في الواقع المعاصر المضطرب المملوء بالصعاب ، وأوضح ان المؤمن هو” من يؤمن بان الدين هو معرفة الحق ورحمة الخلق”، منهبا الى أن الفهم الصحيح لشريعة خير الخلق يقتضي من المؤمنين رحمة كل الناس بغض النظر عن دينهم وعرقهم وجنسهم، مضيفا أن التراحم والتعاضد بين الناس يعد قيمة أخلاقية في المجتمع وسمة حضارية وانسانية لها اثرها البالغ في الحياة الاجتماعية، وأنها سبب نزول رحمات الله تعالى، مشيرا الى أن الله تعالى قد اثنى على رسوله الكريم وصحابته ووصفهم بالتراحم بينهم مذكرا بقوله تعالى في سورة الفتح ” محَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ “، كما استدل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ” وان ابعد القلوب من الله القلب القاسي” ، وأورد في هذا السياق مقولة للشيخ ابن عربي رحمه الله جاء فيها “حقيقة الرحمة ارادة المنفعة و إذا ذهبت ارادتها من قلب شقي بإرادة المكروه لغيره ذهب عنه الايمان والاسلام “.
وذكر القادري أن المؤمن يتميز بقلب حي مرهف لين رحيم عطوف، يرق للضعيف والصغير والمسن والمريض والمنكوب ويألم للحزين الوجع ويحن على المسكين ويشعر بضيق ومصاب الاخرين، قلب يجعله يمد يده سريعا الى الملهوف وينفر من الإيذاء والظلم والبغي ويكره الإجرام والعدوان ويستصلح ما استطاع في نفع وهداية الخلق باستمرار في كل وقت وحين، مستدلا بقول تعالى” فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ* فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ* ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ* أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ “.
وخلص القادري الى أن أي اصلاح أو تغيير حقيقي ينبغي أن يبدأ من الداخل الى الخارج من اصلاح قلب الفرد الى اصلاح المجتمع ، مضيفا أن مطلب تزكية النفس والارتقاء بها الى ما يحب الله تعالى هو مطلب كل إنسان إيجابيي ينشد التغيير والاصلاح واشاعة الاخلاق الفاضلة والقيم الانسانية، مبرزا في هذا الصدد دور التصوف السني المبني على الكتاب والسنة النبوية والتربية الاحسانية القائم على جلب المصلحة ودفع المفسدة والفهم الصحيح لمقاصد الشريعة وبناء الفرد واصلاح قلبه عملا بالحديث الشريف ” الا وان في الجسد مضغة ، اذا صلحت صلح الجسد كله واذا فسجت فسد الجسد كله ، الا وهي القلب “.
ونبه الى ان اصلاح الفرد هو الضامن لإصلاح المجتمع، من أجل تنمية الرأسمال اللامادي للمساهمة في توازن المجتمع خدمة للصالح العام، موضحا ان هذا هو ديدن تربية التصوف ورجالاته التي ما فتئت الطريقة القادرية البودشيشية وشيوخها، تحرص على تلقينها لمريديها وتربيتهم على مبادئ اتخاد الاسباب وطلب العلم والعمل وحسن الظن بالله وبعباده بعيدا عن كل سلبية وانعزالية وتطرف وتربية على المواطنة الفاعلة والعيش المشترك وقيم السلم والسلام تحت القيادة الرشيدة لأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.