في مفهوم المشاركة السياسية
لن أقف بتفصيل في تعريف هذا المفهوم الذي تناولته المدارس الفكرية بالدراسة والتحليل، لكن سأقتصر على المشترك بينها اعتبارا أن المفهوم تطور عبر التاريخ في المجتمعات الغربية، أي منذ أن تناوله فلاسفة الإغريق الأوائل كأفلاطون وأرسطو ومن تبعهم، حتى تبلور بشكل أكبر خلال عصر النهضة. ومن ثمة فالمشاركة السياسية إذن مفهوم غربي بحث وبالتالي فهو حديث العهد بالمجتمعات والثقافة العربية؛ إذ لم يتولد من رحم التجارب العربية بما لها وما عليها، فظل بذلك خاضعا لمنطق التقليد.
على الرغم من ذلك فالمفهوم بشكل عام هو المساهمة المباشرة وغير المباشرة في عملية اتخاذ القرار، في إطار النظام السياسي وفق قواعد يحددها تعاقد بين الدولة(السلطة) والمجتمع، من خلال ما يعبر عنه بالدستور، وهذا لا يتم إلا في نطاق الدولة الحديثة صاحبة المؤسسات الديمقراطية. وتتم أجرأت هذه العملية من خلال:
-حق المواطن في التصويت
-حق المواطن في الترشح
-حق المواطن في الوصول إلى مناصب عامة في الدولة
طبعا هذا المفهوم يرتبط أيضا بمفهوم المواطنة، أي أن ينتمي الفرد إلى مجموعة بشرية ولديه شعور بالانتماء الدائم إليها والعمل من داخلها على:
-خدمة المجتمع ومحبته له وتفاعله مع جميع أفراده
-طاعة ولاة الأمر
-المشاركة في شؤون المجتمع
-احترام عادات وتقاليد المجتمع وتقدير مؤسساته
-الدفاع على الوحدة الوطنية والمحافظة عليها..
إن المشاركة السياسية هي جوهر المواطنة، فالمواطنون هم أصحاب حقوق اجتماعية اقتصادية ثقافية وأيضا سياسية. على هذا يتم تصنيف النظام الديمقراطي على أنه النظام الذي يسمح بأوسع مشاركة، في سياق التعبير السياسي المبني على استبعاد الصراع ليحل محله الفكر المؤطر داخل المجتمع وأيضا داخل كل مؤسسات الدولة.
السياق التاريخي للمشاركة السياسية لمغاربة الخارج
إن التحولات الاقتصادية والسياسية والديموغرافية التي عرفتها الهجرة المغربية خلال العقود الأخيرة، كانت عنصرا حاسما في تبني الدولة سياسة جديدة اتجاه مغاربة العالم.
في هذا السياق نفهم مضامين الخطاب الملكي للسادس من نونبر 2005، الذي فتح آفاقا جديدة أمام مغاربة العالم، حيث أكد الملك ضرورة تمكين المهاجرين المغاربة من التمثيلية في كل المؤسسات المغربية، ومن ضمنها البرلمان، وإحداث دوائر بالخارج، وفتح الباب أمام الأجيال القادمة للمشاركة السياسية ترشحا وانتخابا. كما جاء الخطاب بإحداث مجلس الجالية بالخارج.
لقد شكل هذا الخطاب مفصلا تاريخيا بين مرحلتين أساسيتين: مرحلة كانت الدولة المغربية تتعامل فيها مع المهاجرين بمنطق السوق= الربح… بالنظر لعائداتهم من العملة الصعبة ومدى مساهمتهم في الاقتصاد المغربي ومرحلة “انفتاح واعتراف ” بأهمية هذه القوة البشرية في تطوير المغرب اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. ومن ثمة ضرورة القطع مع سياسة العهد السابق، في إطار ما عرف بورش الإصلاح الذي دشنه المغرب على جميع المستويات، والنظر بشجاعة إلى مخلفات الماضي الثقيل وطي صفحته.
في هذا الإطار أيضا جاءت توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة لتؤكد ضرورة إعطاء المهاجرين حقوقهم السياسية بالمشاركة في المؤسسات التمثيلية وتخويلهم حق التنظيم في إطار جمعيات للتعبير عن مطالبهم. لتتوج بدستور 2011 الذي جاء واضحا في فصله 11، حيث نص بصريح العبارة على أن من حق المغاربة في الخارج التصويت والترشح في الانتخابات محليا وجهويا ووطنيا، وهو حق شخصي وواجب وطني حسب الفصل 30.
إن هذا التنصيص في الوثيقة الدستورية لم يتم تفعيله في الانتخابات التي تلت دستور 2011 أو حتى في انتخابات 2016. فلمادا هذا التلكؤ والاستهتار بأسمى وثيقة دستورية؟
أهمية مغاربة العالم
لا يخفى على أحد الأهمية الكبيرة للهجرة في عملية التنمية، فهي تعمل على تدعيم الاقتصاديات الوطنية سواء للبلدان المصدرة أو المستقبلة لها. فتقارير المنظمة الدولية للهجرة تقول إن التحركات السكانية على المستوى الدولي تخفف الضغط على الأسواق المحلية من خلال توفير فرص الشغل.
فالمغرب يقدر عدد مهاجريه بأزيد من 5 ملايين نسمة موزعين على أكثر من مائة دولة، وحضورهم في الاقتصاد الوطني قوي. وتحولات المغاربة بالخارج تقلص بأكثر من 30 بالمائة من العجز التجاري، كما أن مساهمتهم تخفف نسبة الفقر في المغرب بما يقارب 4 نقط حسب تدخل السيد رئيس الحكومة السابق عبدالإله بنكيران في جلسة أمام مجلس المستشارين. وتصل هذه المساهمة سنويا حوالي 5 مليار دولار، وهو رقم يفوق 3 مرات حجم المعونات الدولية التي يتلقاها المغرب.
ومما يزيد من أهمية هذه العائدات كونها لم تعد موجهة للاستهلاك أو الادخار بل أخذت تساهم في خلق مشاريع مذرة للدخل والثروة في مختلف مناطق المغرب. حيث يظل العقار النشاط الأكثر جذبا للاستثمار يليه القطاع السياحي.
وتستفيد الأبناك أيضا من هذه العائدات حيث يصل حجم ودائع المهاجرين في المصارف المغربية حوالي 14مليار دولار.
إن الدور في النهوض بالاقتصاد الوطني لا يمكنه أن يحجب عنا الدور الاجتماعي وكذا ما أصبح يعرف بالدبلوماسية الموازية التي تقودها جمعيات المجتمع المدني في بلدان الإقامة، في الدفاع عن مصالح المغرب وحقوقه لدى كل المؤسسات، خاصة الأوروبية منها عندما يتعلق الأمر بالقضايا الاقتصادية أو حتى ملف وحدتنا الترابية. ناهيك على نشر قيم التسامح والتعايش، والتعريف بالموروث الثقافي والحضاري للمغرب، مما يساهم في استقطاب السياح.
سياسة الخوف أم حسابات سياسية ؟
إن المشاركة السياسية للجالية المغربية أصبحت أمرا لا رجعة فيه بالنظر إلى الاعتبارات السابقة. وإذا كانت أوضاع المهاجرين المغاربة ظلت حاضرة في خطابات الملك، حيث أولاها أهمية كبرى. ومما زاد هذه الأهمية التنصيص دستوريا على حقوق مغاربة العالم في الفصول 17-18-19 كضرورة حيوية لتدعيم وتثبيت ركائز الديمقراطية.
مقابل هذا لم تكرس الحكومات المتعاقبة أي جهد يذكر، بل لم تمتلك الجرأة الكاملة لتوضيح سبب هذا التأخر، اللهم بعض التصريحات هنا وهناك التي تتناقلها الصحافة. فمرة نسمع ونقرأ أن الأمر مرتبط بصعوبات تقنية لوجستيكية…وكأن المغرب يعيش خارج عصره في وقت يوصف فيه، ومنذ زمان بأنه قاطرة إفريقيا ديمقراطيا وتكنولوجيا..بينما نجد دولا في العمق الإفريقي ورغم ضعف إمكاناتها ووضعها السياسي تسمح بمشاركة مهاجريها في بلدان إقامتهم في الاستحقاقات الانتخابية كساحل العاج والسينغال وغيرهما.
ومرة أخرى فالأمر راجع إلى ضيق الوقت أو ضرورة المزيد من المشاورات لحساسية الموضوع.
إن ما يثير قلق الجالية هو عدم وضوح الرؤية لدى النخبة السياسية المغربية، التي تبدو على مستوى الخطاب مع المشاركة السياسية لكن واقعيا يبقى الملف خارج الأولوية، وهنا نقرأ المقترح الذي تقدمت به أحزاب “الاتحاد الاشتراكي” و”الاستقلال” و”العدالة والتنمية” كل على انفراد، حيث لازال لدى لجنة الداخلية والجماعات المحلية بالبرلمان وهو يعكس رؤية كل حزب دونما نقاش.
إن ضبابية الموقف تفتح مجالا لبعض الإشاعات التي ترجح عدم حسم هذه المسألة مخافة وصول تيارات متشددة إلى قبة البرلمان أو أن تذهب أصوات المهاجرين للعدالة والتنمية وبالتالي تغليب ميزان القوة لصالحه، وهو” منطق” يناقض الفهم السليم للممارسة الديموقراطية، وثانيا فالحزب المعني قد صوت لصالحه مغاربة الداخل فتصدر انتخابات 2016 فما محل هذا التخوف إذن؟ا
أما القول إن بعض الدول الأوروبية حيث 80 بالمائة من المهاجرين لن تسمح بإقامة استشارات انتخابية على أراضيها، فهو تخمين يبقى عالقا بأذهان أصحابه لا غير، فالغرب بلد ديموقراطي له تقاليد عريقة في مجال الحقوق والحريات، بدليل أن المغاربة قد أدلوا برأيهم في استفتاء دستور2011. كما أن أحزابا مغربية لها فروع في أكثر من بلد أوروبي وتنشط باستمرار دون عراقيل لأن الأمر يتعلق بحق التنظيم وحرية التعبير. ثانيا المغرب تربطه علاقات واتفاقيات بهذه البلدان، وكثير منها جاليته بالمغرب تمارس حقها الانتخابي، ولعل مشاركة الفرنسيين في الرئاسيات الأخيرة بالمغرب دليل على هذا، ومن هنا فمبدأ المعاملة بالمثل يخدم مصالح الجالية المغربية .
إن الأمر يتطلب تبني أسلوب جديد من طرف كل المعنيين خاصة الحكومة، وذلك بتجاوز الرؤية الأمنية والحسابات السياسية الضيقة التي تسيطر على هذا الملف باسم الخصوصية المزعومة. كما أن مجلس الجالية وبحكم وضعيته الجديدة في الدستور مطالب بتصحيح وضعيته حتى يساير المهام والاختصاصات الموكولة إليه، إذ لم يعد خافيا الانقسام والتصدع الذي يلازمه منذ مدة مما يفقده مصداقية الاستجابة لتطلعات المغاربة، خاصة عندما يصرح بعض مسؤولي المجلس بأن الأولوية ليست للمشاركة السياسية إنما للمشاكل التي تواجه الجالية، متناسين أن من مهام المجلس هو العمل على تقديم رأي استشاري بهذا الخصوص بذل الهروب إلى الأمام وفق ما ورد في المادة الثانية من ظهير 21دسمبر 2007.
إن الحكومة اليوم مطالبة بالتقدم خطوات لإقامة نوع من المعقولية ومن التطابق لما ورد في التصريح الحكومي، وإلا فالجالية المغربية ستظل على الهامش، مما يجعل الديناميكية الجديدة التي دخلها المغرب تفقد أحد مقوماتها، فبقدر ما ينخرط كل المواطنين في العملية السياسية بقدر ما تقوى العملية الديمقراطية، سيما وأن الجالية تعتبر مشتلا للأطر والكفاءات في كل المجالات وبما ان المواطنة كل لا يتجزأ فمن حقهم الحضور الوازن في كل المؤسسات بما فيها مؤسسة الحسن الثاني ومؤسسة محمد الخامس والمجلس الاقتصادي والاجتماعي..ليظل الارتباط بالوطن المحرك لهذا الحق وعامل جدب وانخراط في العمل السياسي المهجور داخليا بسبب العزوف.
*بقلم :عبدالله جبار
*فاعل جمعوي وباحث في قضايا الهجرة-إيطاليا
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.