عندما تعلو العادة على العبادة: دعوة لاستعادة المعنى الروحي لعيد الأضحى

abdelaaziz64 ساعات agoLast Update :
عندما تعلو العادة على العبادة: دعوة لاستعادة المعنى الروحي لعيد الأضحى

نعيمة عثماني

يمثل عيد الأضحى أحد الشعائر الإسلامية العظيمة التي تحمل في جوهرها أبعادًا روحية ودينية عميقة، ترتبط بالإيمان والتقوى والتضحية في سبيل الله تعالى، حيث يُحيي ذكرى امتثال النبي إبراهيم عليه السلام لأمر ربه، مما يمنحه مكانة استثنائية في تعزيز القيم الدينية والإنسانية في المجتمعات الإسلامية. غير أن هذا المعنى الجوهري يتعرض في كثير من الأحيان للطمس نتيجة هيمنة البُعد الاجتماعي والشكلي على البُعد الروحي والعبادي، حيث تتحول الشعيرة إلى طقس روتيني اجتماعي يفقد جزءًا كبيرًا من معانيها الأصيلة، ويتحول إلى مظهر مادي يطغى على الجوهر.
لقد تحوّل العيد في نظر الكثيرين إلى طقس اجتماعي يخضع لسلطة العادة، ويبتعد شيئًا فشيئًا عن كونه عبادة قلبية وروحية. ففي الوقت الذي يُفترض أن تكون الأضحية تجسيدًا للتقوى والإخلاص، بات التركيز ينصب على شراء الأضاحي بأي وسيلة، حتى وإن كانت فوق طاقة الأسر، لمجرد مسايرة الأعراف المجتمعية. وتحوّلت المناسبة إلى سوق استهلاكي، تتنافس فيه الأسر على اقتناء الأضاحي، لا لشيء سوى للحفاظ على صورة نمطية، غيّبت الهدف الديني الحقيقي، واستبدلته بالسعي وراء الكماليات والرموز الاجتماعية الفارغة. وتتجلى خطورة هذا الانزلاق حين نضعه في سياقه الاقتصادي والاجتماعي الراهن، حيث يواجه العديد من المواطنين أوضاعًا معيشية صعبة، ازدادت حدتها نتيجة ارتفاع أسعار الأضاحي وندرة القطيع، مما دفع إلى إصدار توجيهات ملكية استثنائية بإلغاء فرض الأضحية هذا العام، مراعاة لمصالح الناس وتخفيفًا للعبء عن الفئات الهشة. غير أن هذه المبادرة الرحيمة، المستلهمة من روح الشريعة التي تقوم على رفع الحرج والتيسير، لم تقابل في كثير من الأوساط المجتمعية بوعي كافٍ، إذ استمرت بعض السلوكيات الاستهلاكية في فرض نفسها، مما يؤكد أن العادة أصبحت تتحكم في مواقف الناس أكثر من التعاليم الدينية نفسها. هذا الواقع يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة حول مدى فهم المجتمع للمقاصد الحقيقية للشعائر الدينية، ومدى إدراكه لحقيقة أن الإسلام لا يفرض عبادة تصبح مصدر عناء ومعاناة، بل يشرع من العبادات ما يعزز التوازن بين الروح والمادة، بين الفرد والمجتمع. فالأحاديث النبوية ونصوص الفقه الإسلامي تؤكد أن النية والتقوى هما الأساس، وأن الأضحية ليست مجرد طقس ظاهري، بل عبادة مشروطة بالاستطاعة، ومجال لتزكية النفس وإظهار الرحمة ومساعدة المحتاجين، لا مناسبة للبذخ والتفاخر.
ومن هذا المنطلق، فإن استعادة المعنى الروحي لعيد الأضحى يتطلب مجهودًا جماعيًا لتصحيح مسار الاحتفال به، عبر نشر الوعي الديني السليم، وتعزيز التوجيه الأخلاقي والاجتماعي من قبل العلماء والخطباء، بما يعيد توجيه الناس نحو جوهر العبادة. كما أن المؤسسات التربوية والدينية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالاضطلاع بدورها في تصحيح الفهم العام للشعائر، ومقاومة مظاهر الاستهلاك التي فرّغت العيد من رسالته الأصلية.
ولا يقل أهمية عن ذلك تفعيل قيم التكافل والتضامن، من خلال دعم الأسر المعوزة ومساعدتها على تجاوز الإكراهات الموسمية دون إحراج أو ضغط نفسي، فهذه هي الروح الحقيقية للعيد. وما لم يُواكب البعد الاجتماعي بحس ديني أصيل، فإننا سنظل نكرر ذات السلوكيات، ونعيد إنتاج منظومة من الطقوس الخالية من المضمون، في وقت نحن أحوج فيه إلى أن نُعيد بناء العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، على أسس من الرحمة والتقوى.
إن التحدي المطروح اليوم، هو كيف نجعل من عيد الأضحى مناسبة تُحيي في النفوس معاني الإيمان والخضوع لله، لا مجرد عادة تتكرر كل عام بلا أثر روحي. فحين تسود العادة على العبادة، نكون قد انحرفنا عن روح الدين، وتحولت الشعيرة إلى عبء لا يُجني منه الإنسان سوى العناء. لذلك، فإن العودة إلى جوهر عيد الأضحى، بما يحمله من قيم الإخلاص والتضحية والتكافل، هي السبيل لإعادة الاعتبار لهذه الشعيرة الدينية العظيمة، وتحريرها من سطوة العادات التي أضعفت أثرها الروحي في حياة الناس.


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading