الحياة يجب أن تعاش …وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان…

voltus23 فبراير 2016آخر تحديث :
الحياة يجب أن تعاش …وستعرف بعد رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان…

قصة قصيرة:بقلم :ذ .عبد الرحيم هريوى//

كان الزمان يتحرك بطيء جدا تحت أقدامنا، في تلك الأيام الخوالي، وكان عبق الحياة نستنشقه بكل حرية ونحن نمشي وسط الزقاق الضيقة، وبين الدروب المظلمة، بثياب قد نغيرها أكثر من مرة في كل يوم رغم بساطتها، كي نظهر لأنفسنا أمام مرآة البيت الطويلة، بشخصيات أخرى نتخيلها في عالمنا الخاص وتعجبنا. إنها شخصيات لبعض الممثلين أو الموسيقيين العالميين المشهورين في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي…والذين ملأنا بهم جدران بيوتنا  المتهرئة والمتواضعة، بألبومات عريضة وكبيرة، مع كتابة أقوال وحكم متنوعة كنا نحفظها عن ظهر قلب، وعادة ماكانت باللغة الفرنسية التي كانت في زمننا لغة الأدب والفن والموسيقى والشعر والاقتصاد، وحتى يراك الآخر بأنك حداثي ومتمدن لابد أن تستعملها كثوابل مع لغتك العامية،وكنا نتلقى بها جل المواد الدراسية في مؤسساتنا التعليمية، مما سهل علينا استعمالهاكلغة للتعبير والكتابة بكل سلاسة وبساطة، بل أمسى منا من يكتب بها أبياتا شعرية أو رسائل عاطفية أو مقالات معبرة. ومن الحكم التي ما زالت ذاكرتي تحتفظ بها:

Il viendra un temps ou les chiens auront besoin deleur queue//soit Que Tu Soit L.un Du Jour Tu Mourra

وكان الجمال في الطبيعة يروقنا، وكنا نظن أن ما نحس به من مشاعرعميقة وعواطف جياشة، لن تنقضي أبدا بل كان إيماننا قوي بالحياة، ووشمنا كل الذكريات الجميلة في دفاترنا وكتبنا التي كنا نحملهابين أيدينا بدون محافظ، كمظهر من مظاهر التحصيل المعرفي والعلمي، والذي كنا نتنافس فيه بكل حماس ورغبة في التفوق…وكانت عقدة العنصر النسوي تعيش بيننا ولاتفارقنا في كل نقاشاتنا وحواراتنا، فكان كل شاب تجده يفتخر بين أصدقائه بحكاياتهلقصص غراميةقد نراها خرافية، وهو يرويها رواية قصص ألف ليلة وليلة أو سيف دوليزل، والباقي يستمعونلهفي صمت، كالصمت في القبور،لكنهم كانوايتلذذون بكل لحظة من اللحظات التي  يرويها عن قصته بطريقة متناسقة في الأحداث والزمان والمكان …وربما ابتدأت بحدث بسيط وانتهت بمشاكل جمة لصاحبها، قد تجره إلى إدارة المؤسسة بسبب كلام كتبهكله مشاعر فياضة على طاولة الفصل ، ففتح على نفسه أبواب جهنم، وأصبح مطاردا من طرف فلان وترتلان، ولم يجد لورطته مخرجا إلا بعدما تدخل أكثر من طرف لتهدئة الوضع وتحميل صاحبنا  وزرما اقترفته يداه من أذية…لكن تفكيرنا كان كله أحلاما رومنسية ووردية نحو المستقبل البعيد ، وقد دفنا اليأس والخوف من حياتنا ككل… فالحياة كانت تبدو لنا  كالطبيعة الخلابة بألوان زاهية ومزركشة، أوكأنها طائر الطاووس في عز حركاته البديعة، وهو يتبخثر وسط  بهو لمنزل أحد الأثرياء المعروفين على صعيد البلدة…فكنا لا نذكر الموت ولا نتحدث عنها لأنها كانت تمثل لنا نهاية الحياة التي نريدها أن تستمر ونريد أن نعيشها بحب وشوق ، كما كان جواب أحد رواد القصة القصيرة محمد زفزاف في أحد برامج المذيعة فاطمة التواتي، الذي كان يمر بالاثم حين ذاك، فقالت له :الحياة، ماذا تمثل لك؟فأجابها: يجب أن تعاش، وكررها أكثر من مرة، يجب أن تعاش،يجب أن تعاش…

لهذا فأحسن مرحلة يقضيها الإنسان  من عمرههي 30 سنة الأولى،لأنه يعيش فيها الحرية الشخصية بكل معانيها، ولا يهمه إلا ذاته وتلبية حاجياته ورغباته وأهوائه،فهو يريد منافسة أقرانه في كل شيء ولو تطلب ذلك البحث عن أي طريقة أو سبيل ليحصل من خلاله عن مبالغ مالية إضافية تحقق له رغباته سواء بلجوئه للتجارة الموسمية أو الاشتغال في الأوراش بالمدينة أو أي شغل آخر يدر عليه مالا… المهم أن الظروف ستفرض عليه أن يدبر أموره، ويبحث له عن سبيل لتحقيق رغباته… فأسرته في ذلك الزمان تتكون من عدد من الأنفس قد يماثل فريقا لكرة القدم من إحدى عشر لاعبا ،مما يجعل رب الأسرة همه الأول والأخير هو إيجاد القوت اليومي و مصروف القفة خلال الأسبوع، و التي كان لها صلة بالسوق التقليدي، وكل طلب خارج هذه الأجندة يعتبر في نظره (دسارة)… وهنا جاءتني حكاية طريفة لأحد الأساتذة الأصدقاء، لماحصل على البكالوريا في عز زمانها،وأراد الذهاب إلى الدار البيضاء لتسجيل نفسه بالكلية،فطلب من والده أن يمده بالمصروف ،فأعطاه 100درهم وقال له خذ هذه، وادفع منها مصاريف التنقل واشتري منها سروالا ومصاريف التسجيل وو…ولاتنسى أن ترجع لي بعد عودتك ما تبقى من(الصرف)…نعم إن هؤلاء الآباء لايلامون أبدا، لأنهم كانوا يعيشون معزولين عن العالم الحضري، ولا صلة لهم بعالم المدينة… وحتى إذا ما سافروا إليها،يكون السبب الوحيد إما لحضور جلسة بالمحكمة حول دعوة قضائية بخصوص الإرث أوالحضانةو الطلاق…

نعم إنها ملامح من حياة عشناها ونحن شباب يافعين وكل منا كانت أمانيه لاتحدها الجبال. فمنا من ظل يراود مكانه، ولم يقدر على الغوص في أعماق الحياة، وظل جالسا وراء الشجرة يفكر في الآتي والمستقبل فهرب منه زمانه واختفت عنه الغابة وأمسى يطارد خيط دخان وهو يتلاشى في الفضاء ،وكأني به يغني مقطعا من أغنية العندليب الأسمر (وستعرف بعد رحيلالعمر بأنك كنت تطارد خيط دخان ،دخان ، ياولدي). لأنه لم يركب مركب الحياة الحقيقية ويصارع الأمواج العاتية في ذلك الزمان ليصل إلى اليابسة ويعيش في بر الأمان من تقلبات الظهر وغدر الزمان .والآن يعض على يديه وقد دخل إلى خريف العمر وندم على أشياء وأشياء لكن لاينفع الندم. وكلما تذكر تلك الأيام الخوالي بكى بكاء الخنساء على أخيها صخر :

لا بــــد مــــن ميــتــة في صرفها عـــبـر// والدهــــر فــي صرفه حول وأطوار

 

 


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

الاخبار العاجلة

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading