في غياب دور النخبة في إدارة الأزمات ؛ وتراجع دور المثقف وصعود الشعبوية من النخب الحاكمة في ظل سماء مفتوحة من تكنولوجيا الإتصالات الحديثة ؛ أصبحنا نسمع الكوميديا الساخرة من الأراء والتحليلات الشعبوية عن الأزمة الحالية ، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية علي الإقتصاد وإرتفاع الأسعار وأرتفاع سعر صرف الدولار مقابل العملة المحلية في مصر ، بدأت الكوميديا بأطلاق أسم البلح (بلح بايدن -وبلح بوتين) علي قائمة الأسعار ،ومع إرتفاع سعر الحليب في مصر تداول المغردون النكات والدعابة ” هل البهائم تم إستدعائها في الحرب ” إن أخطر شيء من الحرب ،هي الشعبوية والفوضي العارمة، من غير المتخصصين في الشأن السياسي والإقتصادي وترك الباب مفتوح علي مصرعية . للإجتهادات الشعبوية وتراجع دور النخب في ظل الأزمة جعلت المواطن العادي في حالة تخبط وإرتباك ؛ في ظل تراجع النخبة عن المشاركة في الأزمة التي قد تعصف بالبلاد ألي الهاوية وعدم الإستقرار الذي سوف يطيح بكل شيء ،. في ظل عالم مضطرب من حروب بدأت لايعلم أي محلل سياسي متي تنتهي ؛ وعندما تصبح الشعبوية هي ملامح الفترة الراهنة من مفترق طرق للنظام العالمي.استوقفني التاريخ المخيف من الرعب والفزع ومع صعود اليمين المتطرف .ليعيد ذاكرة التاريخ للحقبة التاريخية بعد الحرب العالمية الأولي ؛ من صعود الشعبوية السياسية التي ظهرت بعد ” الثورة البلشفية ” في روسيا عام 1917م وفي إيطابيا وألمانيا ؛ التي أفرزت شخصيات . أمثال “هتلر .وموسوليني ،وستالين”.
وكان من ضحاياهم حوالي( 70 مليون قتيل وجريح ومفقود ) لقد إبتلينا بأخطر شيء في عصرنا وهي ظهور الشعبوية السياسية من عامة الشعب الذين تقمصوا دور النخبة علي شبكات التواصل الإجتماعي .في ظل أزمة المثقفين في زماننا وفي إعتقادي إنها ليست أزمة بسبب إرتباط معظمهم وعلاقتهم بالسلطة السياسية والدينية، بل إنها في عمقها أزمة ضمير وأخلاق والتزام يولّد شقاءً أو ينتج جاهاً. فلا غرابة أن يكون المثقفين ، أهم أدوات الدفاع عن الحريات الأساسية للناس، وترميم المجتمعات التي أعطبتها الأنظمة الديكتاتورية والسلطوية ، أو أن يكونوا سلاحاً بالغ الخطورة بيد السلاطين، لتزييف وعي وواقع البشر وذاكرتهم. إننا في لحظة فارقة من حقبة تاريخيه. وتاريخهم.نعني في حديثنا عن المثقفين فئة المتعلمين، لأن كل متعلم ليس بالضرورة مثقفاً، وإن كانت دائرة العلم والمعرفة هي التي يخرج من إطارها المثقفون طبعاً. فالمتعلم يقنع بزاده من المعارف والمعلومات والآراء، لكنها تبقى بين يديه حجارة مبعثرة، بيد أن المثقف هو الذي يحسن الإفادة منها، لأنه يتعامل معها ، أن المثقف إذا تخلى عن الإستماع إلى صوت ضميره وسوغ لنفسه أن يتخلى عن مسئوليته فى الجهر بكلمة الحق فإنه يخون رسالته ويفقد شرعيته و تنامى ظاهرة المثقفين الذين لجأوا إلى الإمساك بالعصى من الوسط، في ظل الأزمات بحيث أصبحوا يضعون قدما فى جانب والقدم الثانية فى جانب آخر. ويطلقون جملة تحتمل التأويل ثم يفرون منها إلى ما يستبعد أى تأويل يفضى إلى الاشتباك ويخل بإطار الموالاة؛ حتى إن أحدهم دخل السجن لقضاء عقوبة إهانة احدی السلطات فی موقف سیاسي ۔ خرج ضیف فی برنامج ” توك شو ” یمدح فیه السلطة ۔ وهناك شخص أخر حين غاب عن المشهد بعض الوقت، فإنه برر غيابه بادعائه أن صمته بحد ذاته كان موقفا فيه رسالة أراد توجيهها إلى من يهمه الأمر.۔۔والبعض الآخر
وقفوا على الحياد وحرصوا على أن يقدموا أنفسهم باعتبارهم من دعاة المعارضة المستأنسة ،
فمنهم المثقف التقليدي أشبه بأجير العمل الوظيفي الثقافي، يكرر القيام بما يجيد فعله. وفيهم المثقف العضوي الذي إما أن يكون ملتصقاً بسلطة، أو مناهضاً يسعى للتغيير. وهناك بعض أشباه المثقفين الذين يتسمون بالإنتهازية، فترى أحدهم قد انتحل شخصية المثقف علي شبكات التواصل بكتابة بوستات ؛ ويتلوّن حسب مقتضيات المناسبة وشروط الولاء، ويتحول في كل مرحلة، يقوم بالتشكل حسب القالب كأنه مادة هلامية، يؤمن بأن لكل مقام مقال.و حديثنا عن المثقفين فلیس کل متعلم مثقف ، لأن كل متعلم ليس بالضرورة مثقفاً، ولکن کل مثقف متعلم وإن كانت دائرة العلم والمعرفة هي التي يخرج من إطارها المثقفون.
۔فمنذ 6 قرون کان “التتار” علی مشارف مدینة “دمشق “۔ وکان معروف عنهم القوة وحین یدخلوا ارضاً یجعلوا الأخضر یابسًا ۔۔ هنا تتجلي المواقف والمعرفة ۔۔
بين الغازى التترى “تيمور لنك ” وبين ( ابن خلدون القاضى والمؤرخ وعالم الاجتماع ) وما كان يمكن أن يترتب فى العصر الحالى بسبب قرار ابن خلدون ألا يدين تيمور لنك ويرفض مواجهته. .
عن زحف “تيمور لنك” باتجاه دمشق واجتماع الفقهاء فى المسجد “الأموى ” لبحث الأمر، فى حين كان ( ابن خلدون ) جالسا ينتظر فى بيت قاضى القضاة. دارت المناقشة بين الفقهاء حول ما إذا كان عليهم إصدار فتوى بوجوب الجهاد ضد تيمور لنك أم استرضاؤه. وانتهوا إلى ضرورة إعلان الجهاد، الأمر الذى ترتب عليه نشوب معركة قتل فيها كثيرون.
ابن خلدون الذى لم ير أن هؤلاء الفقهاء لا يمثلون النخبة ارتأى أنه لا جدوى من الجهاد ضد قوى جارفة مثل تيمور لنك. لذلك فإنه التقى الرجل وخرج من اللقاء ليدعو وجوه دمشق إلى الاستسلام. وبذلك فإنه فصل بين ” الموقف وبين المعرفة” ، واعتبر أن المعرفة أقوى وتدوم أجلا أطول. البعض اعتبر موقفة و تحفظه مسلكا اتسم بالحماقة، والانتهازية السياسية؛ لأنه رفض تحدى تيمور لنك بحجة معرفته المسبقة بنتائج المعركة وإدراكه لأطوار حياة الدول.
وسأل البعض عن النتائج التى كان يمكن أن تحدث لو قرر العالم الكبير أن يتدخل، وربما غيَّر ذلك من وجه التاريخ. وفى رأى بعض المثقفین أن ابن خلدون لم يكن مهتما بالتغيير أو بالتطور، وإنما كان مهتما بنجاته ونظرياته التى توصل إليها حول حياة الدول.هل أخطأ “ابن خلدون” عندما حافظ على حياته وتحليلاته وأعطى تيمور لنك الأمان الذى طلبه منه ۔و إن توصيفات وتحليلات ابن خلدون عاشت أمدا أطول من الأفعال العاطفية والنضالية التى قام بها المجاهدون لإيقاف الزحف التترى، لكن ذلك يدعونا إلى إعادة النظر فى سلامة موقفه وصواب نصيحته، رغم أن التاريخ نسى الذين قاتلوا وماتوا، واعتبر ” المتقاعس “بطلا “إن المعرفة تقتضى المسئولية على من يحملها. وعلى المثقفين أن يتدخلوا فى الشئون العامة لمقاومة المعتدين والطغاة .!
فالمركب يعطي لنا إشارات الإستغاثة فسوف يغرق بنا جميعا ؛ ونحن مازلنا نراقب الشاطيء الأخر .إنقذونا أيها النخبة من عصور الشعبوية !!
“محمد سعد عبد اللطیف”
کاتب مصري وباحث فی الجغرافیا السیاسیة “
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.