تقف ليبيا الآن في مفترق طرق ، فإما أن يتغلب السلام ، وإما أن يستمر الاقتتال ، وتتفاقم الفوضى و اللاستقرار، و تتوسع أكثر رقعة نفوذ التنظيمات الإرهابية المهددة لأمن و استقرار المنطقة و دول والجوار، لدرجة أن هناك من وضع ليبيا على أجندة المناطق الاستراتيجية ذات درجة المخاطر المرتفعة على جنوب أوروبا والممر البحري المتوسطي .
و لاشك أن الليبيين ينتظرون بفارغ الصبر حدوث استقرار بالبلاد وقيام دولة لها سيادة على جميع أقاليمها ، وإقرار دستور لتنظيم السلط بليبيا ووقف الفوضى العارمة . ويأمل الكثيرون من المتتبعين على الصعيد الدولي في أن ينجح الفرقاء في إنهاء حالة الفوضى . فالوضع في البلاد لم يعد يحتمل، وأن الشعب الليبي يتطلع الى دولة استقرار وأمن وتنمية وقيادة رشيدة تجنبه وليات الحروب ، التي قد تستفيد منها شركات بيع الأسلحة والشركات النفطية ، و أيضا الجماعات المتطرفة التي قد تستغل الفوضى لتوسيع رقعة نفوذها، في الوقت الذي يطمح الشعب الليبي إلى الأمن والاستقرار و التنمية و الحكامة الرشيدة .
وتجدر الاشارة في هذا الصدد إلى أن ليبيا الآن تتجاذبها عدة أطراف اقليمية ، يحاول كل طرف تقديم حلول للازمة في ظل ظروف جد معقدة بسبب حدة الصراع بين الاطراف السياسية و صعوبة التوصل الى حل توافقي .
و نشير في هذا الصدد ، إلى أن المملكة المغربية لعبت دورا رائدا في دعم مسلسل المفاوضات الليبية وتقريب وجهات النظر لإنهاء الخلافات وتشكيل حكومة وفاق وطني تحظى بتزكية البرلمان الليبي . وهذا الدور المتقدم الذي يقوم به المغرب من خلال سياسته الخارجية ، يندرج في إطار التزامه بالحفاظ على مبدأي السلم والأمن بالمنطقة العربية ، وحتى على الصعيد الدولي ، كما أن سياسته في مجال مكافحة الإرهاب تجعله يعي كل الوعي لقطع الطريق أمام التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم “داعش” للامتداد في شمال افريقيا وبالتالي إلى أوروبا ، وبالخصوص عن طرق ليبيا التي تتواجد بها خلايا إرهابية ، قد تنتعش وتتقوى في ظل الأزمة.
فضلا عن ذلك ، فإن المغرب اكتسب مرجعية دولية في هذا النوع من المبادرات السلمية الرامية إلى فض النزاعات ، إضافة الى الثقة في مؤسسات المغرب وتجربته المستقرة وعلاقة المغرب بشخصيات ليبية مؤثرة، وامتداداته ذات الطبيعة الاجتماعية والدينية داخل ليبيا، والعلاقات التاريخية والإنسانية القوية التي تربطه مع الشعب الليبي ، مما يجعله أن يكون مؤهلا أكثر كي يلعب دورا محوريا في هذا الملف و تحقيق الاستقرار ووحدة البلدان المغاربية .
ولا ننسى في هذ الخصوص الدور المحوري الذي لعبه المغرب للوصول الى اتفاق الصخيرات في يوم 17 ديسمبر 2015 ، حيث وقعت وفود عن المؤتمر الوطني العام بطرابلس ومجلس النواب المنعقد في طبرق شرقي البلاد والنواب المقاطعين لجلسات هذا المجلس، إضافة إلى وفد عن المستقلين ، و بحضور المبعوث الأممي إلى ليبيا برناردينو ليون ، على اتفاق يقضي بتشكيل حكومة وحدة وطنية توافقية، واعتبار برلمان طبرق الهيئة التشريعية، وتأسيس مجلس أعلى للدولة ومجلس أعلى للإدارة المحلية وهيئة لإعادة الإعمار وأخرى لصياغة الدستور ومجلس الدفاع والأمن . وهذا الاتفاق تم بإشراف أممي، حيث سبق لمجلس الأمن الدولي التأكيد على أنه يبقى الإطار الوحيد القابل للاستمرار لوضع حد للأزمة السياسية في ليبيا في انتظار إجراء انتخابات.
غير أن بعض الدول العربية قامت بخلط الأوراق و نسف ما تم الاتفاق بشأنه بالصخيرات من خلال سعيها لدعم الخيار العسكري لحفتر و قواته على حساب الاتفاق السياسي ، رغم كانت هناك مبادرة مشتركة في صيغة إعلان وقعه في 20 فبراير2017 ، في لقاء بتونس ، وزراء خارجية كل من الجزائر ومصر و تونس تدعم التسوية السياسية الشاملة في ليبيا، حيث تقوم المبادرة على ستة مرتكزات، من بينها التمسك بسيادة الدولة الليبية ووحدتها الترابية وبالحل السياسي كمخرج وحيد للأزمة الليبية، على قاعدة الاتفاق السياسي الليبي الموقع بالصخيرات في 17 ديسمبر 2015 باعتباره إطارا مرجعيا.
فقوات الفريق خليفة حفتر ، الرافض لاتفاق الصخيرات و المدعوم من قبل بعض الدول العربية ، ذات الأهداف الجيو – الاستراتيجية بالمنطقة ، تمكنت من إخراج خصومها من بنغازي والاستيلاء على جزء كبير من “الهلال النفطي” في خليج سرت، مع إنتاجه من النفط والغاز، ومنشآت تكرير وتصدير النفط ، و هي الأن تزحف إلى ليبيا للاستيلاء على السلطة بالعاصمة . و موازاة مع ذلك ، لاحظنا أن المجلس الرئاسي ، بصفته سلطة تنفيذية مؤقتة يقوده فايز السراج ، لم يحقق تقدماً كبيراً في معالجة القضايا اليومية مثل أزمة السيولة النقدية وانقطاع المياه والكهرباء كهرباء تؤدي إلى مزيد من انعدام الثقة.
هذا التصعيد العسكري من جانب قوات حفتر أثار قلقا دوليا من تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية و الاجتماعية بليبيا التي تعيش في الوقت الراهن انقسامات حادة. فكل من الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا والإمارات سارعت إلى التعبير عن قلقها البالغ من التصعيد العسكري في ليبيا، معتبرة أن تهديد حفتر بعمل عسكري أحادي لن يؤدي إلا إلى المجازفة بجر ليبيا نحو الفوضى و تعميق الانقسامات.
فالدعم الذي تقدمه كل من مصر، والإمارات العربية المتحدة وروسيا للجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر من شأنه أن يساهم في تعميق الأزمة السياسية و إحداث المزيد من الانقسامات بين المكونات السياسية في ليبيا، ناهيك على أن تعدد المبادرات حول الأزمة الراهنة في ليبيا ، سواء من الداخل أو الخارج ، لن يوحّد الجهود الدولية الرامية إلى إيجاد تسوية للأزمة .
وعلى هذا الأساس ، يظل الاتفاق السياسي الموقع في الصخيرات الخيار الأفضل والعنصر الأساسي لتسوية الأزمة الليبية ، و ممكن أن يقطع الطريق للتدخل الأجنبي ، و يتصدى ، من جهة أخرى ، لتوسع نفوذ تنظيم الجماعات المتطرفة ، علما بأن المغرب مؤهل أكثر من أي دولة على المستوى الاقليمي في أن يساهم في دعم الاستقرار والأمن بليبيا ، و تجنب المزيد من المواجهات العسكرية ومنع الانهيار الاقتصادي ، و كذلك تعريض آفاق تحقيق السلام للخطر على نحو أكبر.
ذلك أن فشل عملية السلام وتصاعد الصدامات والخلافات بين الفرقاء السياسيين والعسكريين بليبيا ، من شأنها أن تفجر العنف بالبلاد و أن تعطي للجماعات المتطرفة فرصة لتجميع قواها و التوسع أكثر ، وبالتالي فإن الأولوية القصوى والعاجلة تتمثل في منع هذا الانفجار الاجتماعي الذي يبدو أن احتمالاته تتعاظم .
بقلم : د . خالد الشرقاوي السمونيمدير مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.