الاستعراض بلا أثر.. قافلة الصمود نموذجًا لانسحاب المعنى من الفعل العربي

Boufdam Brahim12 يونيو 2025Last Update :
الاستعراض بلا أثر.. قافلة الصمود نموذجًا لانسحاب المعنى من الفعل العربي

 

عبد الله مشنون، كاتب صحفي مقيم بايطاليا

في ظل التصعيد الدموي المستمر في غزة، برزت مجددًا موجة من المبادرات الرمزية، كان من أبرزها ما سُمّي بـ”قافلة الصمود”، وهي مبادرة شعبية رفعت شعار “الزحف إلى الحدود وعدم التولي يوم الزحف”، في محاولة لإحياء رمزية التضامن العربي مع القضية الفلسطينية. غير أن هذا النمط من الفعل، بدل أن يُحدث أثرًا ملموسًا، أعاد إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا حول جدوى مثل هذه المبادرات: هل ما زالت التعبئة الرمزية قادرة على التأثير في المعادلات الواقعية، أم تحوّلت إلى طقس استعراضي معزول عن شروط الفعل السياسي الناجع؟
• التفكير بالتمني إلى الانفصال عن الواقع
تُجسّد “قافلة الصمود” نمطًا مما يمكن تسميته بـ”التفكير بالتمني الوهمي”، حيث يتم إسقاط إرادة جماعية رمزية على واقع يتطلب أدوات أعقد ومقاربات أشد تدرّجًا. فالإيمان بإمكانية تحرير القدس أو فكّ الحصار عن غزة بمجرد تنظيم زحف راجل إلى الحدود، دون قراءة في ميزان القوى أو السياقات الجيوسياسية، يعكس خللًا في نمط التفكير السائد، يُراهن على “المعجزة” بدل الرؤية الواقعية المدروسة.
وفي هذا السياق، يحق التساؤل: لماذا يستمر هذا النوع من الممارسة رغم افتقاده للنجاعة؟ ما الذي يُبقي على جاذبيته الرمزية؟ وهل تحوّل إلى آلية نفسية للتعويض عن غياب الفعل الاستراتيجي الحقيقي؟
فعل بلا مضمون: حين يتحول التضامن إلى طقس استعراضي
من اللافت أن غالبية هذه المبادرات، بما فيها قوافل الدعم الرمزية، تنطلق من خطاب المساندة لكنها تصل خاوية اليدين من أبسط أشكال العون المادي أو التقني. في مقابل تقاليد تضامنية عُرفت بها شعوب مثل المغرب، حيث كانت القوافل الشعبية لا تخلو من شحنة رمزية مشفوعة بفعل ميداني ملموس، كتبرعات غذائية أو أدوية، يتحوّل بعض الحراك الراهن إلى تسجيل موقف بصري، لا أكثر
هنا تبرز إشكالية كبرى: هل يكفي الموقف الرمزي للدفاع عن قضية بحجم غزة، أم أن هذا النمط من التضامن أضحى ملاذًا لتفادي أسئلة الفعل الواقعي؟ وأي أثر يمكن أن تحققه مبادرة رمزية لا ترافقها استراتيجية دبلوماسية أو إنسانية ممنهجة؟
الموقف العربي: خطاب مزدوج وتناقض استراتيجي
تعكس التحركات العربية إزاء العدوان على غزة في الأشهر الأخيرة تناقضًا بنيويًا واضحًا. فمن جهة، تندفع بعض الدول (تونس، الجزائر، قطر) نحو خطاب تعبوي حماسي، يُراهن على استنهاض المشاعر الجماهيرية دون أدوات ضغط فعلي. ومن جهة أخرى، تغيب الاستراتيجيات العملية القادرة على التأثير في معادلة الحصار أو تقديم دعم ميداني للفلسطينيين.
هذا التناقض يفتح الباب على سؤال إشكالي: إلى أي حدّ يخدم هذا النوع من الحراك القضية الفلسطينية، وأين تتقاطع هذه المبادرات مع منطق “التفريغ الرمزي” الذي يمنح المشاعر العامة مخرجًا دون أن يُحرج الفاعل الرسمي بمطالب ملموسة؟ وهل نحن أمام لحظة تتطلب إعادة النظر في أدواتنا التضامنية بدل إعادة إنتاج أساليب لم تعد تُجدي؟
في أفق نموذج بديل: الدور المغربي الممكن
في ظل هذا الفراغ الفعلي، يبرز المغرب كفاعل قادر على تقديم نموذج تضامني مختلف، يقوم على التوازن بين الفعل الرمزي والدعم العملي. فرئاسة المغرب للجنة القدس، وارتباطه التاريخي بالقضية الفلسطينية، تمنحه شرعية مزدوجة: رمزية وشبكية. كما أن المغرب رآكم أدوات دبلوماسية وإنسانية تتيح له الانخراط في مبادرات واقعية تتجاوز الطابع الاستعراضي، من خلال إرسال مساعدات ميدانية، وتوظيف قنوات الوساطة الهادئة.
ولعل السؤال الأهم في هذا السياق: هل يمكن للمغرب أن يُحوّل قوته الناعمة إلى آلية منهجية للتأثير في الملف الفلسطيني، بعيدًا عن منطق الاصطفاف الإيديولوجي؟ وهل يستطيع أن يُنتج خطابًا تضامنيًا جديدًا يُوازن بين المشروعية الرمزية والفعالية العملية؟
أفول خطاب الممانعة: من الشعارات إلى مأزق السردية
في مقابل هذا الأفق الممكن، يعاني محور “الممانعة” التقليدي، الذي تشكّل تاريخيًا حول فكر ناصري قومجي وعداء بنيوي للأنظمة الملكية، من انتكاسات متتالية. فقد أظهرت التحولات الإقليمية محدودية هذا المشروع في التأثير، سواء على مستوى الخطاب أو الأدوات. كما أن غياب بدائل واقعية وفعالة، وانكفاء الفكر القومي الشعبوي على شعاراته السابقة، أفرز أزمة سردية حادة جعلته غير قادر على تقديم أجوبة للمشهد المعقّد الراهن.
ويبدو أن هذا المسار يُعزز الحاجة إلى براديغم تضامني جديد، لا يُقاس بدرجة العداء أو الصخب الإعلامي، بل بمدى القدرة على إحداث فرق في الواقع، سواء من خلال القنوات الإنسانية أو الدبلوماسية أو القانونية.
• نحو تجاوز الاستعراض: إعادة تعريف التضامن
في المحصلة، ما يُنتزع بالحكمة والمراكمة السياسية لا يمكن اختزاله في مبادرات استعراضية أو شعارات لحظية. إن الفعل التضامني الحقيقي يحتاج إلى مساءلة ذاته، وإعادة تحديد شروطه وأدواته وسقف انتظاراته. ولا يمكن لأي قافلة – رمزية كانت أو ميدانية – أن تُحدِث فرقًا، ما لم تكن جزءًا من رؤية استراتيجية تستحضر الواقع ومتغيراته، وتُزاوج بين الحماسة والعقلانية، بين الوجدان والفعل.
من هنا، فإن إعادة تعريف التضامن العربي مع غزة تبدأ من القطع مع “عقلية الاستعراض”، والانتقال إلى فعل عقلاني تراكمـي يُنتج أثرًا ولو محدودًا، لكنه حقيقي ومستدام.


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Breaking News

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading