بطريقة توحي بأنه مستقلّ بالفعل ، وأنّ القاضي يكون مستقّلاً إزاء المجتمع بوجه عام وإزاء فرقاء النزاع بوجه خاص. في ضوء ذلك يمتنع القاضي عن إقامة أية علاقة غير ملائمة مع السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ويحمي نفسه من كلّ تأثير آتٍ من جانبهما. ومن الوجوه التطبيقية لمبدأ الاستقلال ممارسة القاضي مهماته معتمداً على تقديره المهني للوقائع والأسباب القانونية الملائمة ، وذلك بمنأى عن أيّ تأثير خارجي أو تحريض أو ضغط أو تهديد او تدخّل مباشر او غير مباشر من قبل أيّ كان ولأيّ سبب كان. ومن الوجوه التطبيقية أيضاً : استقلال القاضي إزاء زملائه القضاة سواء خلال المداولة التي تمنحه ملء الحرية في التعبير عن الرأي او لدى ممارسة مهمّاته القضائية في أيّ موقع آخر. ومن اهم الاخلاق التي يجب ان يتصف بها القاضي على الخصوص نذكر:
1 التجرد :
على القاضي ، من هذا المنطلق ، أن يتصرّف تصرّف الأب الصالح ، والحكم المنزّه، في كل قضية يعالجها . وعليه ان يميل عن أيّ هوى خاص وعن توقّع أيّ مكسب فردي . وعليه أن يمارس وظائفه القضائية بالطريقة التي تعزّز الثقة به وتقلّل او تُلاشي الفرص التي تدفع المتقاضين إلى طلب ردّه . ومن التطبيقات العملية لمسلك التجرّد : وجوب مبادرة القاضي إلى التنحي تلقائياً كلمّا توافرت الأسباب الملحوظة في القانون او كلّما اعتقد اعتقاداً راسخاً بان هناك أسبابا جديّة تدعو اي مراقب منصف وعارف وغير متحيّز الى الشك بان ثمة تضارباً بين ممارسة وظيفته القضائية وبين مصلحته الخاصة ومصلحة من يرتبط وإيّاهم بروابط القرابة او الودّ او الشراكة . وعليه ادارة التحقيقات بشكل حازم ، واحترام الفرقاء وحقوقهم في الدفاع ، وتجنّب توجيه الملاحظات المؤذية الى اصحاب العلاقة ، والمرافعة بشكل يراعي أدبيات المهنة اذا كان من قضاة النيابة العامة . وعليه ادارة شؤونه الذاتية ومشاريعه المالية بالشكل الذي يُضيّّق الى اقصى الحدود فرص طلب ردّه او احتمالات تنحّيه التلقائي . ويقتضي الا يبادر الى التنحّي اذا كان تنحّيه هو بالذات او تنحّي أعضاء آخرين قبله من المحكمة التي يشترك في تأليفها ، يؤدّي الى التمنّع عن إحقاق الحق . ومن تطبيقات مبدأ الحياد أيضاً الامتناع عن اي تعليق يتناول مسار المحاكمة ويوحي بانه سيحرم احد أطراف النزاع من نتيجة عادلة يتوخّاها ، سواء جرى هذا التعليق في معرض المحاكمة او خارجها . ومن التطبيقات كذلك سهر القاضي على مراقبة سلوكه مراقبة ذاتية صارمة ، داخل المحكمة وخارجها .
2-الحياد :
والحياد هو لون من ألوان التجرّد . وما من حق القاضي ان يمارس اي نوع من أنواع الانتقائية في ما يتخذه من قرارات .
3- المساواة
واذا كان الحياد وجهاً من وجوه التجرّد ، فالمساواة وجه من وجوه الحياد . ويتجلّى مبدأ المساواة بامتناع القاضي عن الانحياز الى هذا او ذاك من المتقاضين بسبب الدين أو المذهب أو العرق أو اللون أو الجنسية أو العمر أو الجنس أو الحالة المدنية أو القدرات الجسدية والنفسية . ويتجلّى أيضا بمعاملة المحامين وأطراف النزاع والشهود والمساعدين القضائيين والخبراء ، فضلا عن زملائه القضاة ، معاملة لا تمييز فيها بسبب الاختلافات المذكورة .
3- النزاهة
على القاضي ، في هذا المضمار ، بذل كلّ جهد ممكن حتى لا يكون سلوكه محلاً لأيّ ارتياب . وعليه أن يكون دائم التنبّه والحذر تجاه كل ربح او نفع او حظوة يحاول ان يوفّرها له أحدهم ، وتجاه كلّ من يسعى الى تقريبه منه بسبب المهمات التي يمارسها ، كما يحصل أحيانا لدى دعوة القضاة الى حضور المآدب أو الحفلات الخاصة دون ان يكونوا معنيين شخصيا بها ، وذلك من قبل بعض السياسيين أو رجال الأعمال او الساعين الى النفوذ . ويمتنع على القاضي ان يلتمس مكافأة او هديّة او منحة او قرضاً بسبب أمر متعلّق بعمله القضائي . وينطبق هذا الحظر على أفراد الأسرة التي يُعيلها .
4- التحفظ
من الوجوه التطبيقية لموجب التحفظ امتناع القاضي عن المجاهرة بأي رأي من شأنه زرع الشك لدى المتقاضين حول تجرده ، واجتنابه كل أشكال النضال الديني او السياسي او العقائدي على وجه عام . وامتناعه عن التعليق العلني على قرارات قضائية صادرة عن سواه تعليقاً يخدم أغراضاً غير علمية أو من شأنه النيل من قدر المحكمة التي صدرت عنها .
ومن الوجوه التطبيقيّة لهذا الموجب انّه يتعيّن على القاضي التحلّي في تصرفاته وسلوكه وهندامه بما يحفظ هيبته داخل قصور العدل وخارجها ، وعدم إقامة علاقات شخصية مع اصحاب الدعاوى ووكلائهم ، وتجنّب التردّد على الشخصيات السياسية وتلك التي تتعاطى الشأن العام. وعليه الاّ يرتاد أماكن اللهو المشبوهة وأيّ مكان آخر لا يليق بمقامه .
وعليه الاّ يسعى الى تعزيز وضع المتقاضين في دعاوى مقامة امام زملائه ، وان يكون شديد التحفظ لدى استقباله المحامين في مكتبه حتى لا يوحي هذا الأمر بأنّه من قبيل التفضيل أو الانحياز لفريق دون الآخر ، وألاّ يسّمي محاميا للتوكّل بقضية اذا ما طلب منه ذلك أحد المتقاضين ، وإلاّ يقدّم الاستشارات القانونية لأيّ كان .
إنّ حفظ سرّ المداولات هو امتداد لموجب التحفظ . وهو يقضي بأن يكون القاضي مؤتمناً على حرمة المداولات وبأن يحافظ على سريّة التحقيقات و الأبحاث او سواها ممّا يفرضه القانون .
5- الشجاعة الأدبية
في أكثر اللحظات حرجا لا يصحّ للقاضي أنّ ينسى أنّ القرار بيده ، فليكتُب إذاً ما يُمليه عليه القانون والضمير ، بالرغم من كل العوامل السلبية الضاغطة .
ومن المفيد التذكير في هذا المقام بأن التخلّص من الحرج لا يكون باستنكاف القاضي عن النظر في القضية المطروحة عن طريق طلب التنحي لاستشعار الحرج الاّ اذا كان هذا الاستشعار بالغ الجدية ونادراً . (حالات التجريح القانوني ) والحل الصحيح لا يكون بالانسحاب وبدفع الدعوى الى قاض آخر ، وإنّما يكون بالمواجهة ، أي بالشجاعة الأدبية .
6-التواضع
للتواضع وجوه منها الهدوء الذي هو أمضى الأسلحة القضائية نَفَاذاً . فالغيظ والغضب والحماسة والغليان عواطف جارفة وباب الى فقدان السيطرة على النفس وعلى الموقف .
يتمثل التواضع في العديد من المواقف التي تواجه القاضي . فعليه ألاّ يسعى الى استغلال موقعه لإنجاز معاملة خاصة ، والى مخالفة القوانين لتأمين حاجاته او تحقيق رغباته . وينطبق ذلك على كل ما يعود بالنفع على أفراد اسرته وسائر المرتبطين به برابطة قربى او مودة . وعليه ، في هذا الخطّ ، الاّ يسمح لهؤلاء باستغلال موقعه لاجتناء المكاسب الخاصة .
7- الصدق والشرف
جرى التشديد على مصطلحي ” الصدق ” و ” الشرف ” في القوانين القضائية خصوصاً بمناسبة قسم اليمين . واذا كان صعبا فصل كل مصطلح منهما عن الآخر، فبالامكان الدلالة على إشارات وأمثلة توضح مضمونهما وتحفظ خصوصية كل منهما بالرغم من التقارب والتكامل .
يفرض الصدق نفسه على القاضي إزاء زملائه ويتمثّل على الأخصّ باحترامه الرؤساء القضائيين التسلسليين وبوضعهم في الجو الحقيقي لمسار عمله . ويفرض نفسه على أطراف النزاع وذلك بوجوب وضعهم ، ضمن الحدود المتاحة ، في الجو الحقيقي لمسار الدعوى ( أسباب تأخر فصلها مثلا : التحقيقات المعقدة ، انتظار تقارير الخبراء ، التبليغات الاستثنائية ، تغيّب القضاة المشروع عن الجلسات … )
اما التصرّف بشرف فهو لا يعني استبعاد حق القاضي في تنظيم حياته الخاصة كأي مواطن عادي خارج إطار المؤسسة القضائية . ومع ذلك ، عليه ان يسهر على هيبة وظيفته ممتنعا عن كل تصرف يضعف الثقة بالمؤسسة القضائية ( كمخالطة عشرة السوء … )
8- الأهلية والنجاعة
الأهلية اداة عمل القاضي والنشاط هو العمل ذاته .
لا محلّ في هذا المقام للتبسّط في مسألة الأهلية الوثيقة الارتباط بالتهيؤ الثقافي والقانوني العام .ويدخل في هذا الإطار أهمية التكوين والتكوين المستمر للقاضي حتى يواكب مستجدات العصر فضلا عن ضرورة توقير جميع الوسائل المادية و اللوجستيكية من طرف الدولة
أمّا النجاعة ، فمن مستلزماتها ان يقدّم القاضي مهماته القضائية على كل مهمة أخرى ، وان يفصل في القضايا المعروضة عليه ضمن مهلة معقولة . ومن مستلزمات هذا الموجب إحقاق الحق وبالتالي إصدار القرارات المناسبة حتى لا يكون في حالة تمنع او استنكاف عن إحقاق الحق . ومن مستلزماته أيضاً ان يظلّ القاضي دائم الاستعداد لتلبية كلّ مهمة تفرضها عليه مقتضيات العمل . فليس له ان يتبرّم من أي ملف او أيّ قضيّة ينتدب لفصلها ….
“وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون”صدق الله العظيم …………..
بقلم الاستاد :عز الدين الخو رئيس محكمة انزكان عضو رابطة قضاة المغرب
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.