طائر البر..
ا========
عين على نص الشاعرة و الأديبة الدكتورة إلهام عيسى / سوريا
بقلمي سعيدة بركاتي ✍️/ تونس
++ طائر البر ++
طائر البر : عتبة النص من مضاف و مضاف إليه ، حددت فيه الكاتبة نوع الطائر : طائر البر ، اشارة غير مباشرة لوجود أنواع أخرى من الطيور ، مثل طائر البحر ، و طائر الليل …
الطير» مصدر «طَارَ»، قيل هو «اِسْمُ جَمْعٍ لِمَا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ»، وقيل: «يَطِيرُ طَيْرًا وطَيَرَانًا، أي تَنَقَّلَ بِالجَوِّ مَحمُولًا بِالهَوَاءِ»، وتُفيد معنى الانتشار والإسراع والخفَّة.
و على مر التاريخ تحولت الطيور إلى رموز السلام والحرية والأسر والحكمة والهجرة والسلطة والتشاؤم والتفاؤل والوفاء …
يُطلق طائر البر على من هو حسن التصرف ومعرفته بالدروب والمسالك وهو عكس طير العشر
أو يُطلق على من هو محب الصيد والرحلات البرية للدلاله على طول الفترة التي يقضيها في البرية
يقول قيس بن الملوح :
ألا أيها الطير المحلّق غاديا
تحمل سلامي لا تذرني مناديا
تحمل هداك الله منّي رسالة
إلى بلد إن كنت بالأرض هاديا
لنكتشف معا طائر البر هذا في نصنا للشاعرة السورية إلهام عيسى.
عندما يبدأ الشاعر بمخاطبة روحه تأكد أنه فقد من حوله و في نفس الوقت هو في حالة بحث عمن يؤنسه في ” وحدته ” .روح الشاعرة متعبة تطلب منها التأني في الخطوة ، و تسألها لماذا كل هذه السرعة ، إشارة إلى زمنين : + ماضي ، أيامي السالفة
+ حاضر : أترشف جرعة الحلم الباقية (فعل أترشف ) .
بالغ الزمن في الجراح و ترك الندبات حتى باتت المبدعة تضمد لحظات العمر ، فالعمر مهما طال يبقى لحظات فقط و نحن كيف نعيشها .
الشيء الثابت في هذا المقطع هو ” الروح ” و الباقي يصارع الزمن و عقارب ساعته . و لم يظهر في الأفق طائر البر بعد …
تكرر الأمر من فعل ر و د : رِويدك : اسم فعل امر بمعنى أمهل و إذا كانت منصوبة : رويدا تُعرب نعتا منصوبا
رُوَيْداً يا وَلَدُ: مَهْلاً، وَهِيَ هُنا مَفْعولٌ مُطْلَقٌ لِفِعْلٍ مَحْذوفٍ . فَمَهِّلِ الكافِرينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ( الطارق آية 17 )
الكاتبة إذا في صراع مع الزمن الذي تدور عجلته بسرعة ، و هي لا تزال تحلم تلك الأحلام الوردية.
في المقطع الأول خاطبت الروح ، و في هذا المقطع تخاطب ” الجسد ” قامتها : رويدك يا قامتي الفارعة ، و كأن الروح انفصلت عن الجسد ، ” او الشاعرة منهكة و مبعثرة تحاول لمَ شتاتها .( روح و جسدها ) إشارة إلى غربة روحية .
و الفتاة الفارعة هي الفتاة الطويلة الممشوقة القوام، الطويلة الشعر، ذات حسن و جمال فتان ، و من تكون طويلة القامة تكون خطوتها كبيرة ” تسابق الزمن ” و تهزمه أحيانا ، لكن تؤكد الشاعرة ان الخطوة تحملها ” كرياح عاتية ” .
نقف قليلا عند رياح : الرّيح : كلمة أصلها الاسم (ريحٌ) في صورة مفرد مذكر وجذرها (روح) وجذعها (ريح) وتحليلها (ال + ريح).
و نقف عند عاتية : شديدة الهبوب، عَتَتِ الرِّيحُ:
اِشْتَدَّتْ، قَوِيَتْ.
لكن هنا الريح ذكرت بصغة الجمع ، رغم شدة قوتها ، ” وَأَعْتَى هُبُوبًا وَأَخْصَبَ تَلْقِيحًا مِنَ الرِّيحِ ” .
هو تعريج على الريح و الرياح و عتوها و التي وردت في نص القصيدة التي ظهرت فيه الشاعرة ” وحيدة في دار خلاء خاوية ” ، بين جمال الصورة اولها و تعاسة المشهد آخرها : أحلاما وردية / وحيدة في دار خلاء خاوية ، نستنتج ان الشاعرة فعلا تعيش حالة ضياع كلي بين خطوة حالمة و واقع تعيس ، وحيدة في ” دار خلاء ” و الدار عادة تكون عامرة بالأهل و هي فعلا ” المنزل المسكون ” و يتسع مفهومها إلى القرية و البلدة …
” فلدار روح كما للناس أرواح ” و لكن غابت الروح عن دار الشاعرة فقد خاطبتها اول النص حين قالت ” رويدك يا روحي المتعبة.
رويدك رويدك سأرسم على وجهي
مساحيق الأمل
بمفردات الفرح الهارب من الخيبة
سأنتظرها تتهافت الصور والأصوات
تتزاحم الأفكار عميقا
ستذرع الدربَ ذكرياتٌ من زمن الحلم
لا تنفك تبددها غيومٌ موجعة
وثلوج حارقة..
في هذا المقطع بدأت الحواس تظهر في النص ، ” الوجه ” به تقريبا جميع الحواس عدى اللمس ، و يمكن تمييز البارد من الحار عن طريق بشرة الوجه ، الشاعرة في حالة بحث عن ذاتها ، روح ، جسد ، حواس ، ماذا بقي حتى تنطلق مع طائر البر هذا ؟
رويدك بالمقطع الأول و الثاني عرفنا لمن توجهها الشاعرة ، اما في المقطع الثالث ؟
المتمعن في المقطع ، يرى هذه ” ال رويدك ” تخاطب بها الحياة و الزمن ؟؟ ربما … فهي ستضع مساحيق الأمل على وجهها ، فنستنتج ان كل خيوط اليأس هي على محياها ، تقول ” سأرسم ” و ليس سأضع ، و المساحيق عادة نضعها ، متفقون نحن أنها شاعرة و قادرة على تطويع الأبجدية ، فتقول في رسمها : ” بمساحيق الأمل ستنجو من الخيبة ، التي ذكرتها أعلاه ” ضمادات للحظات العمر ” و كذلك في هذا المقطع .
ستذرع الدربَ ذكرياتٌ من زمن الحلم
لا تنفك تبددها غيومٌ موجعة
وثلوج حارقة..
نتفق اولا على شرح فعل ” ذ ر ع “في هذا السطر : اولا هو مرتبط بالمسافة ” الدرب ” ، فهو ذَرَعَ الطَّريقَ : أَيْ قَطَعَهُ بِسُرْعَةٍ كَأَنَّهُ يَقيسُهُ، و درب الشاعرة ذكريات من زمن الحلم ” الوردي ” أعلاه ، فالحاضر ” غيوم موجعة / ثلوج حارقة .
ذاكرة متعبة جدا ، و برويدك هذه تتمنى التغيير ، استبدال الصور القديمة” التعيسة ” بصور و أصوات و أفكار عميقة نابعة اولها من ذاتها ، من حاضرها ، من صنعها و زمنها ، فهي ” الرسامة بمساحيق الأمل ” و فعل سأرسم بمستقبله القريب فيه نبرة إصرار و تحدي و قطع مع ” اليأس ” .
رويدك رويدك يا طائر البر
فعلى ضفة ذكريات الزمن الهارب
سأعود لأخبئ خافقي في جناحيك
وأياميَ الباهتة
ابنة الياسمين و تراتيل حرفها تخاطب طائر البر الذي ظهر في آخر مقطع الذي له علاقة متينة بعتبة النص
مع ال ” رويدك ” الأخيرة ، من طلباتها و الأمنيات المحملة و التي ستخبؤها و ترسلها مع هذا الطائر : اولا نقطة رجوع : أعود ، لماذا ؟ لتخبىء خافقها ” في ” جناحيه ، جمال الصورة الشعرية ، اخفاق الخافق ليس تحت بل في الجناحين ، فيرفرف هذا الخافق و يتحرر من أيام ” باهتة ” ، و رغم رحابة السماء و مداها فقد ضاقت بذات الشاعرة ” كأسراب الحمام الهاربة ” ، صورة أخرى و هذه من واقع أرض الياسمين ، تنشد السلام مع رمزية طائر الحمام ، فهل هو طائر البر ؟
لم يُذكر بالنص و لا نوع آخر من الطيور غير ” الحمام “، يمكننا إذن ان نستخلص من المقطع الأخير : الشاعرة تعيش صراعا داخليا بين ماض أيامه باهتة و أمل سترسمه و تغير من حاضرها و مستقبلها ، و تحقق ” هروبا نحو السلام الداخلي ” ، فهي أشارت إلى ” الحلم الأسير بالأقفاص الباردة ” .
بعض النصوص تأتي مدججة بالصور الشعرية و المستوحاة من الطبيعة ، لتتسارع الحركة مع الأفعال الواردة به : اول المقطع كانت الأفعال هادئة الحركة / تمهل /انظر /دعني / اترشف/أسوي / ثم بدا نسق الأفعال يتصاعد حد التحليق و الهروب في آخر مقطع من النص .
يتضح جليا مما تقدم ذكره ان النص اتى بنيانا متكاملا بعناصره من : الجانب الوجداني حين كانت تخاطب ذاتها ، و تسلسل الأفكار انطلاقا كذلك من ذاتها وصولا إلى الفضا و التحليق بجناحي طائر الحمام دون أن يغيب عن النص الجانب التخييلي ” الخيال ” ، كزمن الحلم و مساحيق الأمل… الذي أضفى عليه قوة و جمالا مما عمق الصورة الحسية للشاعرة.
نص باذخ لشاعرة أبدعت في الرسم بالحرف
بقلمي سعيدة بركاتي ✍️/ تونس
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.