الدكتور سيدي علي ماء العينين
أنا الآن بوجدة ، مسافة نفسية كبيرة بين أن تكتب من وجدة ، وبين ان تكتب عن وجدة ،
وجدة مفترق طرق بين دول المغرب العربي وأفريقيا. وعلى بعد 60 كم من البحر المتوسط كممرً إلى الدول الأوروبية، متميزة بشكل أساسي بموقعها الحدودي.
دعك من تاريخها فستتوه بين الروايات ، بين انتساب بناءها للزعيم المغراوي زيري بن عطيّة مؤسّس المغرب في 994م ، والذي حصّنها بأسوارٍ، وجهّزها بأبوابٍ، وأقام عليها حرّاساً يفتحونها ويغلقونها،وهل فعلا بناها أم فقط جددها على اعتبار أنها موجودة قبل ذلك التاريخ بكثير ،فقد كانت (وجدة) حسب رواية أخرى موقعا يتميز بالاستقلالية و يصل ما بين (موريطانيا الطنجية) أي شمال المغرب الأقصى حاليا، و(موريطانيا القيصرية) أي شمال الجزائر حاليا.
نصف مليون مغربي يسكنون ويتحركون في مساحة تسعة آلاف هكتار ،
عندما بنى عقبة بن نافع اول مساجدها لم يكن يعتقد ان هذه المدينة سيوجد فيها ما يفوق أربعمائة مسجدٍ، محتلة المركز الثّاني بين مدن العالم في عدد المساجد بعد مدينة إسطنبول التركيّة،
حكايات المدينة هي مزيج من الدم و الماء ، و من الاسوار و الحصار ، ومن تقلبات الادوار …
أما الدم ،فقد ارادت لها كتابات أن يقترن اسمها بقاتل مؤسس الدولة الإدريسية ،فنسبوها إلى سليمان الشماخ قاتل الملك المغربيّ إدريس الأوّل، الذي دسّ السّم للملك في طعامه بالاتفاق مع العباسيّين، وهرب إلى شرق البلاد، إلى أن تمكّن المغاربة من العثور عليه والانتقام منه؛ وذلك بقتله في هذه المنطقة، وهكذا سُمّيت المدينة بوجدة.
اما الماء فمن خصائص المنطقة المنبسطة والتي تخترقها العيون والحقول ،
هي الاسوار بعد أن فتحها المُرابطون بقيادة يوسف بن تاشفين عام 1073م، وسقوطها تحت حكم المرينيين، بقيادة السلطان أبي يوسف يعقوب المريني عام 1272م، بعد أن دمّرها ودكّ أسوارها وجعلها خراباً،
وهي الحصار وهي تقاوم العثمانيين في مرحلة ،و الفرنسيين في مراحل اخرى قبل أن يدخلوها قبل الحماية بثلاث سنوات ،
فبسبب موقعها الاستراتيجيّ والسياسيّ المهمّ كانت الدولة المرينية في عداءٍ وتماسٍ دائمٍ مع أمراء بني عبد الواد الموجودين في تلمسان،
ولأنّها مدينة حدوديّة مع الجزائر كانت المدينة مسرحاً لهجمات العثمانيّين، كما دارت على أرضها معارك الإيّالة الأشراف أبناء مولاي علي الشريف.
ارادها العثمانيون ان تكون بوابة لدخول المغرب المستعصي ، لكنها رفضت ومدت عنقها تطل على الاندلس تستلهم منه طربها و اكلها و كثيرا من طباعها ،
واكتفت بالسماح لحمام تركي يتيم أن يجد له مكانا وسط هكتاراتها الشاسعة .رغم احتلالها لمرتين من الاتراك
عندما تقلب صفحات كتاب الأخت الدكتورة ماريا دادي عن مدينتها وجدة ، و تقرأ مقالات كتبت على هامش الاحتفال بوجدة عاصمة للثقافة العربية قبل اربع سنوات ، ينتابك الذهول ،كيف تنسج الحكايات ،وتتعدد الروايات, ويتيه الباحث بين تباين المعطيات ….
هل وجدة الوجدان بحمولة الروح ، ام وجدة الدم بواقعة القتل و الجروح ؟
كيف صممت وجدة ان لا تكون عثمانية على بعد أمتار من جزائر العثمانية ، و اتجهت نحو ما وراء البحر لترتوي من تاريخ الاندلس المغربية ؟
الدكتورة ماريا دادي تكتب عن التهميش الذي تعاني منه المدينة تاريخيا الذي طالها قبل الاحتلال الفرنسي لها،حيث عانت من التهميش والإهمال والتسيّب منذ تأسيسها.
فزيري بن عطية الذي أسّسها، هو نفسه الذي بدأ بتهميشها ولم يستقر بها بصفتها عاصمة له، وصار على منواله الحكام الزيريون الذين خلفوه.
حكمها المرابطون و الموحدون و المرينيون وكلهم واصلوا تهميشها ، وتستدل الدكتورة بذلك انه وفي عهد المرينيين أقطعها أبو الحسن المريني لأبناء الأمير أبي عبد الله بن أبي بكر الحفصي في المغرب الأوسط فبدأوا يأخذون جبايتها ويعسفون بأهلها على حدّ قول ابن خلدون.
وفي عهد السعديين أصبحت تدوسها حوافر خيولهم تارة وخيول أتراك الجزائر تارة أخرى.
وفي بداية العلويين أخذها أتراك الجزائر ولم يسترجعها المولى إسماعيل الا بـ ” معاهدة وجدة “، غشت 1692م.
ثم أخذها الأتراك مرة أخرى ولم يتم استرجاعها إلا على يد المولى سليمان سنة1796م. وخلال القرن 19م عانت الويلات بعد دخول الفرنسيين إلى الجزائر، وداستها خيولهم سنة 1844م ثم سنة 1859م وغيرها،وبعد ذلك بقيت هملا لنفسها ومرتعا لهجمات القبائل المجاورة لها، وفي سنة 1903 احتلها بوحمارة وهربت منها الحكومة الشريفة ،
انا اسميها مدينة الأبواب ، فكل مسجد بباب ،وكل حارة بباب ، واكاد اقول كل حقل او بستان بباب ،
أما الاسوار فلمواجهة الحصار ، و تدفق الاغراب .
من قال إن المغرب لم يحكمه الاتراك فقد اصاب ،لكن الأتراك الذين لم يدخلوا المغرب إحتلوا على مرحلتين مدينة وجدة ،التي ابت الا ان تكون مغربية فاغلقت ابوابها في وجه العثمانيين كما اغلقتها في وجه الفرنسيين، مع انها اول مدينة يدخلها الفرنسيون قبل الحماية ، وهي من فتحت ابوابها للمقاومة الجزائرية ، و الصوفية المغربية و الموسيقى الأندلسية ….
يمكن ان تتيه في تاريخ وجدة ،لكنها ابدا لن تتيه في ملامح اهلها برحابتهم وطيبتهم ومحبتهم ، و تدينهم والتزامهم ،و وطنيتهم و مواطنتهم،
إنهم لا يقودونك لجولة بين دروبها وازقتها فربما يتيهون هم ايضا في التعريف بمدينة بأكثر من بطاقة هوية ، لكنهم يفتحون ابواب بيوتهم والابتسامة على محياهم ،و الحلاوة في كلامهم و مأكلهم والاصالة في ملبسهم…
فهنا الروح تروح ،والمحبة في كل شبر تلوح ،و كل اهلها بين اخ و صديق و نصوح…
زوروا وجدة ، زوروا ارض المودة …
فهل تعتبرون ؟
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.