بقلم ذ عبدالله لعماري
محام بهيئة الدارالبيضاء
في أجواء حزينة، ودعت ساكنة حي البرنوصي، والنخب السياسية التمثيلية والإدارية لمدينة الدار البيضاء، واحدا من أنشط رجالاتها وفعالياتها، الذي ملأ دنيا الشأن العام، وشغل حقوله السياسي والنقابي والرياضي لأكثر من أربعين سنة، الأستاذ محمد منصر، الذي ابتدأ حياته المهنية، معلما، ضمن أخصب وأخلص شريحة تعليمية، عرفها مغرب الاستقلال، سنوات السبعينيات، تلك التي أنجبت للمغرب، أهم رجاله ورواده وعظمائه وأطره العليا، وكانت رافعة لتنميته ونهضته ومغربة هياكله، ثم انتهى به أمره المهني إلى محام لأكثر من ثلاثين سنة، أنفق عمره فيها، في كثر ملفاته، مدافعا عن قضايا وحقوق بؤساء الناس ومستضعفيهم، لما كانوا يلجؤون إلى دفاعه، لجوءهم إلى ممثل للشعب، ومنتخب للسكان، لا يتقاضى منهم أتعابا أو يكتفي منهم بالقيمة الرمزية منها.
محمد منصر الذي ينتمي إلى الجيل الأول لمغرب الاستقلال، جيل فتيان الحركة الوطنية، الجيل الذي تشرب قيمها، وترشد على كفاحات وتضحيات أبطالها وفدائييها، وطوى صباه ويفاعته ومراهقته وهو يرى كيف يمرغ ٱباءه وأجداده من أباة الوطنيين، أنف المستعمر الفرنسي وجبروته في وحل الإذلال، فقد عايش محمد منصر وهو في غضارة عوده، وهو ابن مدينة وادي زم، مدينة الثورة والشهداء، كيف هبت قبائل بني خيران والسماعلة وبني سمير، في ذلك اليوم التاريخي المشهود، من أيام الله الخالدة في المغرب، يوم 20 غشت 1955، فحولت مدينة وادي زم إلى شلال دم وبركان نار، أثار الرعب في جيوش الاستعمار الفرنسي، التي ارتبكت، وتخاذلت، إلى الدرجة التي انهزمت فيها أمام صلابة الهبة الشعبية، التي بسببها قتل قائد الجيوش الفرنسية الجنرال ديفال لاقيا مصرعه بجبال وادي زم، مما حمل باريس على الاستعداد للجلاء عن المغرب.
هذه الروح التي تخلقت في كيان إبن وادي زم، مما تشربه في مدينة الثورة، صبيا وفتى يافعا، هي التي حملها معه، إلى مدينة الدار البيضاء، عندما حل به المقام، في أشد أحيائها التهابا وتمردا، حي سيدي البرنوصي، الحي العمالي العتيد، الذي تشكل وعي ساكنته من مزيج من الهم الكفاحي النقابي في مواجهة الاستغلال الطبقي الجشع لأرباب رؤوس الأموال المستحوذين على المعامل والشركات حزاما مطوقا للبرنوصي وعين السبع، ومن الهم السياسي الذي نقلته معها من كاريان سانترال، معقل الفداء والاستشهاد، شريحة من المقاومين المتذمرين من مآلات مغرب الاستقلال، فكان أن وجد ابن وادي زم في هذه البيئة الجياشة بالتوتر والعناد، مجاله الطبيعي والملائم، لبلورة شخصيته الحركية والنضالية، التي استنبتها سياسيا في الحزب السياسي الثوري المعارض، حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، واستنبتها نقابيا في الاتحاد المغربي للشغل، في جناحه المتمرد على البيروقراطية، جناح النقابة الوطنية لرجال التعليم.
كان حي البرنوصي، حينها، بعد سنة 1965، مشتلا للخلايا الثورية الاتحادية من أتباع الزعيم السياسي المعارض الفقيه البصري، ومن بقايا أتباع الجناح العسكري للمقاوم شيخ العرب، ومن مجموعات المناضل الاتحادي عمر دهكون، وكانت مدرسة البوصيري الابتدائية، التي اشتغل فيها محمد منصر معلما باللغة الفرنسية، المحضن الأول، الذي تبدت من خلاله طاقته الإبداعية وديناميته السياسية، وبدت معها شخصيته جذابة ومنظمة لرعيل زملائه المعلمين بنفس المدرسة، والتي كانت تضم أنجب الكفاءات، وأثرى الطموحات، من عمالقة رجال التعليم ممن نذكر منهم، السادة سربوت، مبشور، المجدوب، الجزولي، البحر، الأبيض، أمرير، القبابي، اعبيدة، البوياقي، البقالي، وغيرهم، بشكل كانت تبدو معها هذه المدرسة خلية نحل نشيطة ومبدعة، وراء العقل المدبر والمنسق ابن وادي زم، الملفت للنظر ببشاشته وضحكاته، وانفتاحه، وحركيته الدؤوبة، مما كان له ٱثار نفاذة تخترق نفوسنا الغضة نحن الأطفال ٱنذاك، تلاميذ مدرسة البوصيري، حيث كنا نرى فيه الفتوة التي تستجلب الإعجاب والتعلق، وتحمل على الحلم بالاقتداء والتأسي، وما كان يداعب مشاعرنا أكثر تجاه شخصيته، هو ما كان يمتعنا به من فرجة على نشاطه الرياضي الكروي كل يوم أحد في الملعب الوحيد لحي البرنوصي.
بعد انصرام الستينيات، وخلال السبعينيات، وعندما صفى الاتحاد الهائج تناقضاته الداخلية، واصطفت أجنحته الحيوية وراء القيادة الواضحة والعلنية، بوعبيد وعمر واليازغي ولحبابي، واتخذ له الحلة الجديدة، حلة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أصبح معلم البوصيري العنوان الأبرز لهذا الاتحاد الاشتراكي في حي البرنوصي، وغدا العلم الأظهر عليه، إلى جانب ثلة من العائدين من السجون والمعتقلات، بوهلال، أمرير، زدي، ومن المناضلين، حسون، الناجي.
وفيما كان حي البرنوصي يغلي باليسار بكل ألوانه، ويموج بأسماء قيادية فاعلة، في اليسار الماركسي، واليسار الشيوعي، وكنا في الحركة الإسلامية الناشئة، ومن موقع المنافسة والصراع على المجال التنظيمي الشعبي، مع التيارات اليسارية، نقوم ونقدر اليسار الأكثر دينامية، هو اليسار الاتحادي الاشتراكي، وفي صلب هذه الدينامية الطافحة، كان محمد منصر الدينامو والمحرك الأكثر تأثيرا، فقد أصبح طالبا في الجامعة، وأصبحت له القدرة الفائقة، على الحوار والانفتاح على الطلبة، ومن ثم الاستقطاب فالانغماس التنظيمي في أوساطهم، وأصبح ملحوظا لدينا نحن ابناء الحركة الإسلامية، أن خطورة الحركة السياسية للمناضل الاتحادي النموذجي محمد منصر تكمن في قدرته على مخاطبة أجيال ثلاثة، في نفس الأن، جيل الشباب الطلبة الذين يدرس معهم في الجامعة، ويتماهى مع راديكاليتهم، وجيلي الأباء والأجداد، الذين يتقاسم معهم همومهم، ويتماهى مع اعتداليتهم وواقعيتهم، حينما يتواصل معهم كرجل تعليم لأطفالهم، وكممثل للساكنة في شأنهم العام، وكمدير رياضي للفرق الرياضية، منذ سنة 1976، تاريخ ولوجه للمعترك السياسي الانتخابي، وتوليه تمثيلية ساكنة البرنوصي، والتي اضطلع بمهامها في تدبير الشأن العام، أربعين سنة متوالية ودون انقطاع إلى غاية وفاته، التي وافته المنية بها، بعد حضوره لموعد اجتماع الدورة العادية لأشغال المقاطعة، لم ينفك عن أسلوبه في التواصل مع الناس، الذين لم يتبرم قط من مخالطتهم واستقبالهم زرافات وفرادى، حيث كانت وعلى الدوام مواقع الاستقبال، هي المواقع الخمس المعروفة عليه، في مقر الجماعة أو المقاطعة، في بيته بين أولاده، ومقتسما مع الناس قوت عياله، في المقهى الذي يجاور سكناه، في مقر مكتبه لما أصبح محاميا، أو في الشارع العام، منصتا لشكاوى المواطنين دون تضجر، في أروع صورة لمناضل القرب من المواطنين، عندما أصبح رئيسا لبلدية البرنوصي سنة 1992، أصبح مكتبه بالبلدية محجا عموميا ويوميا للمواطنين، تشرع دونه الأبواب في وجه الجميع، يبت في المشاكل العامة على الملأ، أو يختلي في مقصورة المكتب بمن يطلب الاختلاء، لمعالجة مشكل خاص.
تلك هي التقاليد التي انفرد بها الأستاذ منصر، في العمل الجماعي، ومخالطته لبسطاء الناس، محتملا تجاوزاتهم أحيانا في حقه وفي حق كرامته، غير أنه كانت له تقاليد أخرى على النقيض من ذلك، إزاء المتنفذين في السلطة أو في الإدارة أو في القيادة الحزبية، وهي التقاليد التي تسببت له في كثير من المؤامرات والمحن السياسية، إذ كان يرى من حقه المجاهرة برأيه متى ما رٱه صوابا، ومن حقه الجراءة في عرض الرأي وبسط الموقف كلما قدر ذلك في مصلحة المواطنين، وقد جر عليه هذا السلوك المخل بقواعد التملق والانحناء، بلايا ومصادمات مع رموز السلطة بلغت إلى حد مصادرة حقه الحائز عليه قانونيا، في التنصب رئيسا للبلدية، في واحدة من أفدح وأسفر وأبشع وقائع التزوير الانتخابي السياسي، استمات فيها الوزير القوي آنذاك في منعه ورفضه، واستمات فيها الأستاذ منصر في الدفاع عن حقه، في مرافعة أسطورية ماراطونية غينيسية، دامت يوما وليلة، دون مبارحة، شهدتها ساكنة البرنوصي في إحدى منازلات سنة 1996.
وهي التقاليد عينها التي واجهته مع ممارسات قيادية حزبية، خلال محطات من تجربته السياسية، اضطرته لأن ينخلع من الخنوع للمظلة السياسية التي تحوله بالإرغام والإجحاف إلى رقم قطيعي تافه يساق ويخسف ويهان، ويؤثر أن يستمر مرابطا على ثغر خدمة الشأن العام، بكرامة المناضل، ولو بعنوان سياسي ٱخر، على أن يبقى مربوطا على وتد إسطبل حزبي قميء.
ولعلها التقاليد التى استقى رحيقها من ثقافة مدينة الشهداء وادي زم، التي تنفخ في أوداج أبنائها، أنفاس الإباء، ومن ثقافة اليسار الأصيل التي تجبل أصحابها على التأبي، ومن ثقافة المحامي التي تصبغ رجالها بصبغة التحرر والتحدي، ولعل واحدة من هذه التصرفات النابعة من هذه التقاليد، أنه وفي ليلة 3 يناير 1994، ليلة الإفراج عني من الاعتقال السياسي الذي دام عشر سنوات، حشد، وهو رئيس لبلدية البرنوصي، كل طاقم المستشارين، وانتقلوا بموكب جماعي، لاستقبالي والاحتفاء بمعانقتي للحرية بعد هذا الزمن الطويل، ولم يسلم معها آنذاك من نقد وتثليب السلطة الوصية، ليس ذلك فحسب بل إنه كان ألمعيا في الاستشراف المبكر لأجواء الإنصاف والمصالحة وإدماج المعتقلين السياسيين، حينما أوجد لي منصب شغل دون طلب مني، لمساعدة مناضل سياسي معارض على جانب من الاستقرار الاجتماعي، ولم يكتف بذلك فقط، بل كان حاتميا في إكرامه ونبيلا في موقفه حينما فتح لي مكتبه وملفاته وخزائن مكتبته حاضا إياي على الإعداد لاجتياز مباراة ولوج مهنة المحاماة، مذكرا إياي بعدم الركون إلى منصب الشغل الممنوح، وكان فرحه بليغا بعد تحقيق النجاح.
وإن يعجب المرء فعجب أن يرى الأستاذ منصر وهو يمتلك ناصية النبل والجسارة والشجاعة إذ يراسلني وأنا في السجن، معتقلا سياسيا، رسائل رسمية مفتوحة على الإدارة السجنية، دون أن يتحسب لمخاطر الزمن الذي كان زمن الجمر والرصاص والقمع، أو يتوجس شر أخذه بالشبهة والظنة، شبهة التعاطف مع متمرد سياسي، أو يستحضر ذكرى الزمن الذي كان فيه يساريا اتحاديا مشبوبا، وكنا نحن إسلاميي ذاك الزمن شعلة من نار في مواجهة اليسار اتحاديا كان أو يساريا.
لقد كان الأستاذ منصر نموذجا فريدا من الصفح والنسيان، لا تترك الإساءات إليه أثرا في قلبه، وتنزاح ندوب الخلافات من قلبه كما ينزاح الماء على الصخرة الصلداء، ولعله ومن مساره الطويل في تولي الشأن العام، ونضال القرب في خدمة المواطنين، تعلم أن الحلم رداء المناضل الأصيل.
رحم الله المناضل الوطني الشهم محمد منصر، فقد كان لأبناء البرنوصي، الأب والأخ والصديق والمرشد والخدوم.
الدار البيضاء بتاريخ 7 يناير 2016
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.