قراءة نقدية:” القصيدة والتماهي في الحب الحقيقي”

الشاعرة: الهام عيسى (سوريا)

القصيدة “الى ذاك البعيد القريب”

الناقدة : جليلة المازني (تونس).

القراءة النقدية : ” القصيدة والتماهي في الحب الحقيقي”

استهلت الشاعرة الهام عيسى قصيدتها بحرف جر “الى” الدال على إسناد الكلام الى شخص َوصَفتْه وصْفا ضديا فتقول:

الى ذاك البعيد القريب..

ان هذا الاستهلال يجعل القصيدة تندرج ضمن أدب رسائل الحب التي دأب عليها العديد من العشاق بالأدب.

انها تتوجه بخطابها الى شخص جمع بين البعد والقرب

لعله البعيد جسدا والقريب روحا.

ماذا قال الأدباء عن الحبيب البعيد؟

– يقول أحد الشعراء :

سأظل أحبك لو طال انتظاري// فان لم تكن قدري فأنت اختياري

– يقول جيلبرت باركز:”الحب لا يعرف المسافة ليس له قارة عيناه موجهتان نحو النجوم”.

– يقول هانز نوينز:”في الحب الحقيقي أصغر مسافة هي كبيرة جدا ويمكن سدّ أعظم مسافة”.

– يقول الفلاسفة عن الحب:” في الحب الحقيقي الروح هي التي تغلف الجسد..

يجب أن يكون الحب نورا بقدر ما هو شعلة”

– يقول عنترة:

وما في الأرض أشقى من مُحِبّ// وإن وجد الهوى عذب المذاق

تراه باكيا في كل حين// مخافة فرقة أو لاشتياق

فيبكي إن نأوْا شوقا إليهم// ويبكي إن دنَوْا خوف الفراق

فتسخُن عينه عند التنائي// وتسخُن عينه عند التلاقي.

– يقول محمد مهدي الجواهري:

خلعت ثوب اصطبار كان يسترني// وبان كذِبُ ادعائي أنني جلِدُ.

وفي هذا الاطار يقول محمود درويش في البعيد والقريب:

لا أنت بعيد فانتظرك

ولا أنت قريب

فألقاك ولا أنت لي فيطمئن قلبي

ولا أنا محروم منك لأنساك

انت في منتصف كل شيء.

وفي هذا السياق ماذا تقول الشاعرة الهام عيسى؟ انها تقول:

الى ذاك البعيد القريب..

المُسَمّى أنا..حيث أرواحنا..

ان الشاعرة لم تشأ أن تعيش لوعة البعد كما ذكر الأدباء والشعراء أعلاه .

انها لم ترض أن يكون حبيبها في منتصف كل شيء كما رضي بذلك محمود درويش.

إنها اختارت وَصْفة في علاقتها بحبيبها تفرّدت بها دون غيرها من العاشقين

انها جعلته البعيد القريب بان جعلته يَنْدغِم فيها ويتماهى معها رُوحًا (المسمّى أنا..

حيث أرواحنا) حتى لا يبتعد عنها ويظل البعيد القريب والمتواجد معها في كل حين وفي كل مكان في اليقظة وفي المنام في السراء والضراء.

انه يتواجد معها وهو يتماهى ومع روحها.

– هل هوالحب بالتماهي بين الحبيبة وحبيبها؟

– هل هو الحب الروحي الذي تنشده شاعرتنا؟

1- التماهي في الحب:

يقول الكاتب والقاص حمد موسي:

“لا يصل الانسان هذه الحالة في الحب الا عبر الثقة والتفاهم, ونتيجة طبيعية لصحة العلاقة بين المحبوبيْن, بحيث ينْصهِران خلقا وروحا وكما تذوب الفوارق

والاختلاف لصالح العشرة التكاملية”(1).

وفي اطار ومعنى آخر لتماهي الحب الوجودي يقول محمود درويش:

اني ولدت لكي أحبك..

فرسا ترقِّص غابة, وتشقّ في المرجان غيابك

ووُلدت سيّدة لسيّدها, فخذني كي أصبّك

خمرا نهائيا لأشفي منك فيك وهات قلبك

انه الحبّ الوجودي ..هل حب الشاعرة يرتقي الى هذا الحب الوجودي؟

هنا قد يتدخل القارئ ليستحضر فيما يتمثل الحب الوجودي :

– “الرغبة بان نكون محبوبين” لأجل أنفسنا “من دون قيد أو شرط.

– موقف المحب لن يتغير بتغير الظروف:”الحب لا يكون حبا اذا تغيّر حين تجد التغييرات سبيلها اليه”(شكسبير –السونيت116)(2).

ان الحب هو سرّ الوجود الحقيقي..انه الحب الذي بدونه لا وجود لوجود الحبيبة.

يقول مارتن لوثر كينغ ” فهو يجعلنا نرى الجمال حتى في أحلك الظروف لا شيء أكبر من القوة التي يحملها القلب المحب”.

ان الشاعرة الهام عيسى في قولها “المسمّى أنا” تتناص في هذا المعنى مع رسالة

كافكا الى حبيبته ميلينا قائلا:” أنا لا أحبك أنت بل أحب ما هو أكثر من ذلك أحب وجودي الذي يتحقّق من خلالك”

ان هذا الحب الوجودي يجسّده الحب الروحي بقول الشاعرة “حيث أرواحنا..”

من خلال هذه الفجوة النصية قد يتدخل القارئ ليستحضر ما قيل في الحب الروحي:

2- الحب الروحي:

“عشق الروح هو ذاك الحب الروحاني ذلك الحب الذي يتجاوز حدود الجسد والمكان حيث يتواصل القلبان على مستوى أعمق من الوجود المادي.

انه الحب الذي ينبع من الروح ويستمرّ رغم البعد والمسافات وكأنه يسكن في الأعماق مرتبط بالطاقة والنوايا الصافية”(3).

انه الحب الروحي الذي يسكن الحبيبة ويسكن الحبيب فهما اثنان بصيغة المفرد.

وكأني بالشاعرة تتناص في هذا المعنى مع الآية الكريمة 189 من سورة الأعراف “هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها”

في هذا الاطار فالشاعرة في حبها الروحي المتماهي:

– تتجاوز المسافات (البعيد القريب)

– تتماهى مع الحبيب ويتماهى معها (المسمى أنا)

– ينبع الحب من الروح ويندغم معها ( حيث ارواحنا)

– يتجاوز الجسد.

كيف ان حب الشاعرة يتجاوز الجسد من خلال قصيدتها؟

تقول الشاعرة:

أتعلم أنني في كل ليلة

أسافر اليك مع النجوم.. وأطبع

ثغري على غيمة تظلك..

وأختزن نبرة صوتك…

وأعطيها الصدى..لآخر

المدى.لأرددها حين أفتقدك…

وأملأ روحي من نورك.

ان الشاعرة توهم القارئ بانها تستمتع مع حبيبها بحواسها ومتعة الحواس هي متعة جسدية:

– حاسة الذوق: أطبع ثغري

– حاسة السمع :اختزن نبرة صوتك/ لأرددها حين افتقدك

بيْد ان الشاعرة تُسخّر هذه الحواس خدمة لحبها الروحي :

– سفرها اليه سفر روحي بما فيه من سموّ النجوم وكمالها(أسافر اليك مع النجوم)

– قبلتها لغيمة تظله وقد تكون له غيثا نافعا (أطبع ثغري على غيمة تظلك).

– نبره صوته تختزنها لتعطيها الصدى ليلازمها وترددها حتى عند افتقاده(اختزن نبرة صوتك..وأعطيها الصدى…لآخر المدى لأرددها حين أفتقدك).

وتملأ روحها من نوره (وأملا روحي من نورها).

انه الحب الروحي النوراني:

يقول الكاتب عيد صالح في الحب النوراني:

” الحب الروحي العميق الذي يتجاوز المشاعر المادية والرغبات الشخصية

ليصل الى مستوى من النقاء والصفاء يتصل بالروح وبالقلب. يمكن وصفه بانه حب يتسم بالانسجام والتكامل بين الارواح حيث يشعر الانسان بوجود نور داخلي

يغمره ويضيء حياته بوجود الطرف الآخر”(4).

وخلاصة القول فان الشاعرة الهام عيسى وبطريقتها المتميزة قد جعلت من الحب حبا يقوم على التماهي وحبا وجوديا باقترانه بالأنا وجرّدته من مادية الحواس وجسديتها فارتقت به الى الحب الروحي النوراني ولعلها هنا تلتقي مع ما أوردته سابقا من رأي الفلاسفة في الحب الحقيقي .

سلم قلم الشاعرة الهام عيسى المتميز والمطبوع ببصمتها.

بتاريخ 23/ 01/ 2025

المراجع:

https://www.alqarn.dj> article(1)

التماهي…والتماثل في الحب.

https://mana.net>the-philosophy..(2)

الحب كتجربة وجودية, وبعيدة عن الاسطورة الفنية- منصة معنى الثقافية.

https ://www.facebook.com>permal..(3)

عشق الروح هو ذلك الحب الروحاني هو..- توأم الشعلة العرب-

https://algomhuriagate.com>..(4)

كتب / عيد صالح الحب النوراني الجزء الثاني- بوابة الجمهورية الاخبارية.

قصيدة الشاعرة الهام عيسى: