عبد الرحمان الزّْنَادِي
في إطار البرنامج العلمي والثقافي لمختبر السرديات والخطابات الثقافية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وسعيه الدائم للاهتمام بمختلف الأصوات المجدّدة في السرد والتخييل من العالم العربي، نظم ندوة حول “الرواية الفلسطينية: سرديات الأرض والذات”، وذلك، يوم الخميس 19 أكتوبر 2023، وقد تميّزت الندوة بعقد ثلاث جلسات؛ حيث استُهلّت الجلسة الافتتاحية بكلمة مدير المختبر شعيب حليفي، والتي جاء فيها :” لم تكن فلسطين بالنسبة لنا فصلا معزولا عن حياتنا في أدق تفاصيلها أو ثقافتنا في صيرورتها أو عن زمننا الذي كان باستمرار في حاجة إلى نبع طاهر نرتوي منه. فلسطين جذر ساخن ظل يغذي حلمنا بسماء واحدة تظللنا وأرض واحدة تكون حجا يوميا لنا، وخيال شاسع أشبه بنهر نستحم فيه ليحرر خيالنا ؛ لذلك فإن الكتابة والتخييل والتاريخ والذاكرة عناصر حاسمة ضد المحو والنسيان.. والرواية دائما هي صوت جماعي وعقل جماعي. ونحن في مختبر السرديات صورة من الجامعة المغربية ومن البحث العلمي ومن ضوء ثقافتنا بهويتها وآفاقها الرحبة، ندرك أن الفكر والإبداع غير منفصل عن مشاعرنا وعن عقلنا وعن مواقفنا الراسخة والمترسخة وعن قيمنا.وبقدر ما نحن منفتحون على تفاصيل تراثنا وثقافتنا .. نحن أيضا منفتحون على الثقافة العربية والإفريقية والإنسانية، وقد شكل الأدب الفلسطيني، شعرا ونثرا، علامات ذات خصيصات في ذاكرتنا الثقافية..واليوم نقف مع الرواية الفلسطينية ونماذج لأصوات أكدت مقدرتها على مراودة التخييل بوصفه آلية ومنظورا وحياة”.
أما نائبة العميد سميرة الركِيبي، فقد أشارت إلى أن هذه الندوة تتضمن قراءة لاثنتي عشرة رواية فلسطينية، تمثل أهم ملامح وسمات التجديد في التخييل والسرد، كما تَرَى أن مثل هذه المواضيع تكتسب أهمية لافتة، كونها تعالج تيمة الذات والأرض، التي لا يخفى على أي باحث مركزيتها ضمن سيرورة البحث العلمي الأكاديمي في مجال الآداب والعلوم الإنسانية.
وفي كلمته الصوتية التي بعث بها، أكد ذ. مراد السوداني باسم الاتحاد ااعام للكتاب والأدباء الفلسطينيين على أن هذه الندوة، بما تمنحه للثقافة الفلسطينية المُقاوِمة، إنما تُنير مساحة من جماليات فلسطين، ووجعها؛ حيث إن الرواية الفلسطينية استطاعت أن تقدم أنموذجا مختلفا واستثنائيا، ليس فقط في المشهد الثقافي العربي، بل صعودا نحو الكون، في تأكيد حضور فلسطين، وقضيتها العادلة على خارطة الإبداع الكوني. مشيرا إلى أن الحاجة تظل دائمة إلى مثل هذه الفواعل الثقافية والإضاءة المعرفية على الأدب والثقافة الفلسطينية المُقَاوِمَة، لتأكيد البقاء على قيد الكرامة، والكتابة والمُنازلة.
لتُختتم بعدها الجلسة الافتتاحية بكلمة اللجنة العلمية وفريق العمل، قدمها إبراهيم أزوغ، عرض فيها ظروف الإعداد للندوة، على مدار سنتين من العمل، قبل وقوع الأحداث الجسيمة الأخيرة التي ألمت بفلسطين، مما أعاق مشاركة عدة أسماء فلسطينية كان حضورها سيزيد اللقاء ثراءً؛ مشيرا إلى أن الرواية الفلسطينية، هي من أبرز أشكال التعبير العربية والإنسانية على ارتباط الأدب بالإنسان وحاله ومصائره. مضيفها أنه إذا كانت الروايات التي تقاربها هذه الندوة تمثل لمختلف أجيال الرواية الفلسطينية، ومختلف حساسياتها الفنية، فإنه يشارك فيها كذلك نقاد وباحثون من جامعات مغربية مختلفة؛ الرباط والدار البيضاء والمحمدية وبني ملال وأكادير ومراكش… ويحضرها من مدن أخرى نقاد وباحثون من المهتمين بالأدب والنقد وحب فلسطين.
بعد ذلك تواصلت أشغال الجلسة الأولى برئاسة إبراهيم أزوغ، فتدخل محمد خفيفي في موضوع “الخيمة البيضاء لليانة بدر: جراح الذاكرة الفلسطينية”، متتبعا تمثيل وضعية المرأة الفلسطينية، مع رصد مظاهر الانحراف الإداري والثقافي، والممارسات المشينة لجيش الاحتلال والمقاومة، ليخلص إلى أن رواية “الخيمة البيضاء” هي نموذج لعدد من الروايات التي عانقت التحول في بنياتها ومضامينها، منسلخة عن خطاب القومية والجهادية والمقاومة ومتشبتة بخطاب الهوية والانتماء، منحازة إلى الفلسطينية الجريحة التي هي في العمق صلة وصل بين أجيال، مهما ساءت الظروف وتعقدت، يوحدها الايمان بغد يتحرر فيها الأرض، ويتحرر فيها الانسان الفلسطيني من احتلال غاشم.
أما مداخلة محمَّد زكّاري “البعد الجماليّ والتاريخي في رواية: احتضار عن حافَّة الذاكرة للروائي الفلسطيني أحمد حرباوي”، فأشارت إلى أن الروائي أحمد حرباوي يتخطَّى، في روايته، العلاقات التي ينْسُجها الإنسانُ معَ ذاتهِ ويعبرُ عنها في قالبِ سيري أو في العلاقات التي ننسُجها مع الآخرين راسماً ملامحَ المكانِ وعلاقتهُ بالذَّاتِ؛ حيث إن استعادَته لمدينة الخليل لم تكُن بدعاً من الكلام، بل يرسُمُ معالمَ المدينة من خلال أشخاصِها، كما لو كانَ مؤرّخاً أو شاهداً عايش تلك الفترةَ.
وجاءت ورقة محمد زكرياء بنسالم بعنوان “ذاكرة سجنية للمستقبل قراءة في رواية ستائر العتمة للروائي وليد الهودلي”، انطلق فيها فيها من كون رواية “ستائر العتمة” لوليد الهودلي قد جسّدت بكلّ فنية واقع الشعب الفلسطيني الأبيّ في زمنية سردية متخيّلة محدودة وهي زمنية المقاومة، والتي أعلن عنها الروائي أسفل عنوان العمل “تسعون يوما من المواجهة الملتهبة في زنازين بني صهيون”.
أما محمد علمي في مداخلته “الترميز والمعنى في رواية الريحانة والديك المغربي ليحيى يخلف” فقد سعى إلى تتبع تمثّلات الهوية العربية في رواية: “الريحانة والديك المغربي” للروائي الفلسطيني يحيى يخلف، من خلال تسليط الضوء على القضية الفلسطينية، والبحث في الجماليات اللغوية والفنية التي قام عليها هذا العمل السردي. فيما قدّم بلعيد جليح، ورقته حول “ربيع حار لسحر خليفة، نقد الذات وفضح جرائم الاحتلال”، مهتما بمفارقة العنوان والقضايا التي تطرحها الرواية، مع تتبع تمظهرات البطولة النسوية وإدانة المجتمع الذكوري، ومحاولة الإمساك بأهم القضايا التي تطرحها والكشف عن طبيعة اللغة المستخدمة وقصدية توظيفها، ليخلص في النهاية إلى أن “سحر خليفة” ظلت ملتزمة بالموضوع الوطني باعتباره القضية الأولى الذي يستحق الكتابة.
وتُختتم الجلسة العلمية الأولى بمداخلة عبد الجليل الشافعي “سردية الألم وتشظي الهوية في الرواية الفلسطينية: رواية منذ ساعة تقريبا لناصر رباح أنموذجا”، تطرق فيها إلى البعد الهوياتي الذي تطرحه، ليتوصل إلى أن الهوية الفلسطينية تعرف تشظيا على المستويين، الفردي والجماعي.
الجلسة الثانية أدارت أشغالها سلمى إبراهمة، وافتتحت بورقة سعيدة تاقي “أصل وفصل: من النص الفلسطيني إلى نسق الكتابة الروائية”، مقدمة فيها دراسة نسق الكتابة الروائية من خلال البحث في محورين اثنين: يرتبط أولهما بكشف معالم تمثيل الحكاية للفضاء الفلسطيني، ويتصل ثانيهما بكشف مناحي فرادة الخطاب الروائي. أما مداخلة المهدي مستقيم ” سؤال الواقعي والمتخيل في الرواية الفلسطينية، رواية الكاتب إبراهيم نصر الله: تحت شمس الضحى نموذجا “، فقد عمد فيها إلى تقديم قراءة في الرواية المذكورة عبر الإجابة عن مجموعة من الأسئلة: كيف يمكن قراءة الرواية الفلسطينية؟ هل ينبغي قراءة الرواية الفلسطينيّة في ذاتها وضمن خصوصيتها (=القضية الفلسطينية)؟ أم انَّ هناك إمكانيّة لقراءتها ضمن المتن الروائي العربي والعالمي؟ من هنا تنبجس إشكالية الكاتب الفلسطيني، لاسيَّما أنَّ القضيّة الفلسطينية إشكال عربي يحمل بعدا قوميًّا له ماضٍ سياسي لا يغيب على بال أحد، ناهيك عن تتالي الخيبات وتتالي الهزائم والانكسارات.
مداخلة سفيان البراق ” الرّواية والواقع: رواية “على درب مريم” نموذجاً لنادية”، سعت إلى إبراز التقاطع الحاصل بين الرّواية والواقع؛ لارتباطها ارتباطاً وثيقاً به رغم اتكائها على عنصر التخييل الذي يستحوذ على نسبةٍ كبيرة في النّص الرّوائي. بيد إنّ الشخوص والأحداث المتخيّلة كلها تنطلقُ من الواقع، وتحاول مُساءلته، وإثارة القضايا الأكثر تأريقاً. أما مداخلة الخامس غفير “مقاربة سوسيولوجية لرواية جريمة في رام الله لعبّاد يحيى”، فتضمنت محاولة تسييق رواية “جريمة في رام الله” ليحيى عبّاد ضمن سياقها الفلسطيني، وبيّنت بشكل مقتضب غير مخل بالمعنى أو المبنى وظيفة الرواية ودورها في تجسير الهوة بين المجتمعات والحضارات، وبناء القيم وتنمية الوعي بالحاضر وبانتظارات المستقبل. في ما ذهبت سكينة الروكي في مداخلتها “صورة فلسطين في رواية بنت من شاتيلا لأكرم مسلم: المكان – المكانية – الوعي – القصدية”، إلى أن هذه الرواية استطاعت أن تبني الشخصية وفق تناص وجودي بالمكان، معبرة عن ذاتها وموقفها من العالم، عبر رصد خصوصيات الإنسان الفلسطيني.
وتُختتم الجلسة العلمية الثانية والأخيرة بمداخلة أنس هاشيم “الصيغ الدلالية والجمالية في رواية مديح لنساء العائلة لمحمود شقير”، مؤكدا على أن الروائي محمود شقير، في متنه، يحاول الوقوف عند الدور الذي لعبته المرأة الفلسطينية في الحفاظ على الهوية والعروبة ومنح قيمة مضافة للذات والرفع من سلطة العادات والتقاليد، في مجتمع حداثي، تهيمن عليه صور الغرب وعاداتهم المسربة عن طريق الاحتلال المباشر للأراضي المغتصبة.
في نهاية هذه الندوة تم فسح المجال أمام المتدخلين للمشاركة وإبداء آرائهم وأسئلتهم، حيث تركزت معظم التدخلات حول رهانات الكتابة الروائية في فلسطين، ومدى استجابتها للحداثة الروائية، وللأساليب والتقنيات السردية المبتكرة التي تمكنها من تفعيل المقاومة الثقافية وحفظ وصون ذاكرتها الثقافية والجماعية.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.