عبدالإله الوزاني التهامي
تعتبر اللغة في الدراسات الفلسفية واللسانية إحدى أهم الركائز المشكلة لهوية أي أمة، لأنها قالب فكر ووعاء إبداع وأداة تواصل، بواسطتها تتبلور حياة الفرد ومن خلالها تتضح رؤية العالم، ويتميز أداؤها الوظيفي بعدم إمكانية تعويضه.
في هذا السياق يشهد المنصفون من كل الأجناس والألسن وعبر التاريخ، بأن اللغة العربية لغة ضاربة بجذورها في القدم، وبأنها حاملة لرسالة مقدسة، وبأنها حاملة لجينات الحياة، إذ تنزلت بهذا اللسان -العربي المبين- آخر الرسالات السماوية الخاتمة.
عرفت هذه اللغة بالثراء والغنى نظرا لحضورها الإنساني التاريخي المتميز في مجال الفكر والفلسفة والتنظير والخلق والإبداع وفي شتى ضروب العلم والمعرفة.
ويرجع سبب موت أي لغة واندثارها، دخولها في حالة جمود وانغلاق بدوافع مختلفة، فتتحنط وتزاح من حلبة شؤون العلم والحياة، وتتحول جراء ذلك إلى “كائن متحفي”.
وفي الحقيقة فإن العجز ليس من طبيعة اللغة العربية، بل إن ما أصابها من تراجع فهو بسبب أهلها، في قدرتهم على إعلاء رايتها أو حطها، وأما موضوع حمايتها في الوقت الراهن من الوهن، يعد بحق اختبار لأهلها الأقحاح على مدى قدرتهم على استعادة شموخها بين الأمم واللغات واحتضانها كعادتها للتفكير والتعبير، أو العكس كعلامة على التخلف والتراجع.
ولا شك أن موت أي لغة أو ازهارها رهين بالبيئة التي تعيش فيها، فإذا أتيح لها مجال الفعل وتأدية وظائفها وأدوارها دون مضايقات وإقصاء، فإن صورتها تزداد لمعانا وسمعتها تزداد تألقا، وإذا حصل العكس فإن صورتها تزداد ضبابية وتشوها، أي أن في حال تهديدها ومحاصرتها من طرف -قادة- لغات أو لهجات أخرى، فإن دورها ينحصر تدريجيا، إلى أن يضمحل ويخفت.
وفي أغلب الحالات فإن الوسط أو المحيط الذي تتراجع فيه لغة ما، يكون متعدد اللغات -Multi lingual-، تعددا فرص فعله على الأرض غير متكافئة، ويكون ذلك أكثر خطرا وشراسة إذا وجدت لغة استعمارية مسنودة بقوة عسكرية وسياسية، تهدف إلى استئصال اللغة الأم المحلية للتمكين لمخطط سياسي وعسكري خارجي.
فتترك هذه القوة الاستعمارية في هذا النموذج للغة المحلية النطق في شؤون محصورة، وتستأثر -هي لغة السيد- بالشؤون الإدارية والأكاديمية والإعلامية والخدماتية.
فما شهده المغرب مثلا قبيل الاستقلال وبعده وإلى الآن من طغيان فرانكفوني، وعربدة تغريبية في مجالات الدولة والمجتمع الحساسة، كالتعليم والإعلام والسياسة والاقتصاد والثقافة، صورة معبرة عما تعرضت له العربية في عقر دارها من هجوم مباشر، كمدخل ناجع لاستهداف هوية المغاربة وثوابت الأمة، ونسف جوهر استقلال وسيادة الدولة المغربية.
يقول “موريس لوكلي” المقرب من “ليوطي”: “إن تعليم العربية للمغاربة يعتبر خطأ فادحا… لأن العربية ارتبطت بالإسلام، ولأنها لغة يتم تعليمها انطلاقا من القرآن، غير أن مصلحتنا -يقول-تفرض علينا تنشئة المغربي خارج إطار الإسلام، إنه يلزمنا من زاوية لغوية -يضيف- الانتقال مباشرة من الأمازيغية إلى الفرنسية، لتحويل المغاربة إلى فرنسيين لغة وفكرا.”
من هذه العبارات فقط وغيرها كثير، تتبين وسائل وأهداف المستعمر الفرنسي، فهو يقصد صراحة تحويل المغاربة إلى فرنسيين عبر دعم الأمازيغية وترسيخها لدى السكان، ليس “حبا في الأمازيغ” ، بل لتسخيرهم كأداة لضرب العربية لأنها لغة الإسلام.
فهو بسياسته الماكرة يتخذ من الأمازيغية سلاحا -ليس إلا- حسب خططه للقضاء على العربية وتقويضها ليتحول المغاربة عربا وأمازيغ إلى “فرنسيس” لسانا وسلوكا.
جاهلا أو متجاهلا سر العلاقة التي بثها الإسلام عبر لغته فيما بين أفئدة العرب والأمازيع، حتى أصبحوا يشكلون جسدا واحدا عبر قرون من الزمن.
العربية إذن لغة رسالية تتجاوز حدود العرق والجغرافية بمخاطبتها وملامستها لعمق كينونة الإنسان.
اكتشاف المزيد من النهار نيوز
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.