حضور الجسد في الفن التشكيلي المعاصر …الجزء الثاني

voltus14 مارس 2016آخر تحديث :
حضور الجسد في الفن التشكيلي المعاصر …الجزء الثاني

 بقلم أحمد رباص

دام هذا الاتجاه وساد منذ أكثر من 40 سنة ولم تخذله أبدا طاقته وحيويته. للتدليل على هذه الصلابة، يكفي ذكر أن هرمان نيتش دأب منذ نصف قرن على الحديث عن مسرحه الفظ الذي شكله من طقوس وسينات، وأن بول ماكارتي “المهرج”، الذي ما فتئ يضحكنا ويخيفنا منذ سنوات العقد السبعيني، أطلعنا على منجزات أسطورية مأساوية حيث يمتزج الدم بالكتشب (صلصة تعد من عصير الفطر والبنذورة والبهارات…إلخ) والبراز بالدموع. كذلك نجد مارينا أبراموفيك تهيئ الإعدامات وتصور بالفيديو تجليات صارخة، ونلفي فرانكوب لم يكف عن بتر أجزاء من جسده. كل هؤلاء الفنانين يتعالون عن إدراك مخنوق وملمس وبليد لمجتمعنا، لعالمنا. كلهم، خلف هذه هذه الثورة الاجتماعية والسياسية، يضعون أمامنا مرآة خطيرة تسمح تسمح لنا برؤية واقع أولي هو حقيقتنا العضوية التي ترتعش بين جوانحنا وتأوي مفتاح الحياة فيما بين نبضتين من نبضات القلب. لهذا السبب، نجد في انتظارنا مفارقتين: المفارقة الأولى هي أن أعمال العنف هاته تخفي طاقة إيجابية خارقة للعادة. فعلى غرار الشعائر البدائية والطقوس العتيقة التي سلطت الضوء على القوة العضوية الكامنة فينا، أطلق هؤلاء الفنانون بدورهم العنان لتفريغ حيوي مدهش. في الواقع، ليست ليست أعمالهم مرضية ولا منحرفة..بالعكس، في تنشد قصيدة الحياة اللامتوقعة، الكهربائية، المعاصرة، الأصلية والكونية. إذا استطعنا للحظة نسيان أحكامنا المسبقة ومخاوفنا وتقاليدنا الثقافية، نستوعب بسرعة القوة البدائية، الجوهرية، الطبيعية التي تنبجس من هذه الشخصيات. أما المفارقة الثانية، المثيرة كذلك، فهي أن هذه الأعمال الوحشية، الداعرة، التي تمزج الدم بالألم بالبراز، تقيم ممرا حقيقيا نحو المقدس. مرة أخرى، تذكرنا هذه الأعمال بطقوس وقرابين تعود إلى زمن عريق في القدم. لا يتعلق الأمر هذه المرة بتقديم القرابين إما إلى إله صنم أو إلى أرواح الأرض. يبدو القربان هنا موجها نحو خفقانه الخاص وانشطاره الذاتي، كما لو أن الدم والألم والجرح عناصر تكشف عن الإله الذي يوجد فينا، عن سحر الحياة. لقد دخلنا إذن إلى حلقة مقدسة، نحن نخاف عادة مما نشاهده لأننا نحس لاشعوريا بأننا نشاهد مليا شيئا محرما، نشاهد سرا، نستعرض فجأة هذه الشخصيات والتجليات ما نحس بنبضه في دواخلنا. إنه سر الإبداع. في اشمئزازنا، هنا أيضا وعي بالتجديف، بالنظرة التي تذهب بعيدا، برمشة عين رأت ما لم تكن رؤيته مباحة. يظهر هؤلاء الفنانون كصناع حكماء، ككائنات واقعة بين الأرض والسماء، كمهرجين سماويين في اتصال مع حقيقة عليا يعرفون كيف يتفاوضون معها.. بالطبع، هناك بعد مسيحي في أعمال الألم هاته..ليس هؤلاء الفنانون سوى ضحايا عملهم ورسالتهم الفنية. لقد وافقوا على الألم والمعاناة لكي يفتحوا لنا أعيننا ورضوا بالنزيف لإنارتنا أحسن.


اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

الاخبار العاجلة

اكتشاف المزيد من النهار نيوز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading